ترى العمر يتسلل يوماً فيوماً ولا نشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبّه القلب فينا بغتةً معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجار كتطاير عدة سنين من الحياة (الكاتب المصري الراحل مصطفى صادق الرافعي). نعم فضراوة الفقد تنقص العمر، وتفزع القلب وتجزع الروح، وتغتال الفرح، وتسرق البسمة.
من منا في هذه الدنيا لم يتجرع مر الفراق ويذوق علقم الفقد؟ من منا لم يذرف عبرات المقل من لهيب فَقد أشعل القلب! كلنا نفقد بعض أحبتنا، إما هم أحياء على الأرض يرزقون أو أموات في السماء يسكنون! وكلاهما موجع، كلاهما يترك في القلب جرح لا يبرأ، وعزاؤنا الوحيد أن نعرف أن الغائبين الأحياء بخير، لكن ماذا عن الذين غيبهم الموت؟ أي عزاء يجدي لتسلى أرواحنا! ففقد الموت مهلك للروح، عصي على المداوي، فهو لا يشبه آلام الفقد الأخرى التي نعول على الزمن كي يخفف وطأتها بمرور أيامه.
شحيح العمر، رحلتِ سريعاً.. بخيل الموت؛ لم يمهلكِ كثيراً! أي حِمل ثقيل ألقى القدر على عاتقي! حتى أحملكِ ألما مع جملة الراحلين الذين انفطر قلبي لرحيلهم.. |
ممتلئون نحن بالفقد ومعبؤون بالوجع، شاحبة الحياة في أعيننا وتغص حناجرنا ألما، ترجف أصواتنا فزعا وتفيض مدامعنا أسى، نتوقف عن التنفس حتى نكاد نختنق، تتوقف عجلة الحياة عن الدوران للحظات من هول الصفعة التي لا يمكن أن نستوعبها، لا تسع الأرض حزننا وخيباتنا، ذلك حالنا حين نتلقى خبر رحيل عزيز إلى دار الفناء.
تقول الكاتبة الكويتية بثينة العيسى "عندما نفجع بالفقد تثقب أرواحنا، هذا ما يحدث بالضبط، شيء يشبه الندبة غير المرئية عالق في أعمق بؤرة في الروح، تبث أغنيات حزينة في الفضاء، كم كانت أغنيتي أليمة!" (بتصرف) نعم كانت أغنيتي أليمة…
فقبل أيام قليلة فوجئت بخبر وفاة الغالية ندى -وهي شابة من أفراد العائلة- صعقني الخبر، لم أتمكن من تصديقه، شعرت لوهلة أن الخبر كاذب! تمنيت لو أن معجزة تحل حتى لا يكون حقيقة! شهقت بعلو صوتي، ومرارة الغصة بحلقي، وحرارة الدموع تترقرق من عيني (ما زالت صغيرة!) ونسيتُ أن الأجل لا يمهل كبيراً ولا يعرف صغيراً.
شحيح العمر؛ رحلتِ سريعاً.. بخيل الموت؛ لم يمهلكِ كثيراً! أي حِمل ثقيل ألقى القدر على عاتقي! حتى أحملكِ ألما مع جملة الراحلين الذين انفطر قلبي لرحيلهم! أعزي أسرتكِ فيكِ وأبحث عن ما يعزيني! فلا عزاء يجدي ليطبطب على قلبي أو ليكفكف دمعي!
رحلتِ جسداً، لكنكِ ستبقين في ذاكرتنا، ستظل قلوبنا تنبض حباً ووفاءً، وكلما فاضت أرواحنا شوقاً لكِ سنرتل القرآن ونقرأ الدعاء لروحكِ |
متخمة بالحزن أمد يدي لألمس الذكريات فيراودني حضنكِ الدافئ الذي تأخذيننا إليه في كل مرة نصافحكِ فيها، فتجرحني رهافة الذكرى، ويرثيكِ قلبي آَسِفاً، وينزفكِ قلمي عاجزاً.
يخنقني فيض العبارات الذي يعج بها صدري وأود أن أكتبكِ فيها، وما أن أشرع في ذلك حتى أرى أن أعمق وأبلغ العبارات قليلة ولا تفي بكِ، فأنتِ البدر إذا أقبلتِ، وأنتِ الشمس إذا ضحكتِ، فماذا أكتب عنكِ يا ندى وأنتِ أنقى من حبات الندى!
ملائكية كنتِ لستِ من أهل الأرض! بيضاء الروح كياسمينة، رقيقة القلب كنسمة، عذبة السجايا، حلوة المعشر، في أعماقكِ مدائن حب.
رحلتِ جسداً، لكنكِ ستبقين خالدة في ذاكرتنا، وستظل قلوبنا تنبض لكِ ولذكرياتكِ حباً ووفاءً، وكلما فاضت أرواحنا شوقاً وحنيناً لكِ سنرتل القرآن ونقرأ الدعاء لروحكِ الطاهرة، طبتِ وطاب ثراكِ يا ندى الروح.
رحم الله أمواتا تلحفت أجسادهم الثرى، غابوا وما غابوا.. رحم الله أحبة في القلب منازلهم ما برحوا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.