في حياة كل منا موقف لا يتكرر ولا ينسى، ومن المواقف التي أحب أن تسكن عقلي ولا تغادره أبدا، ما حدث معي في أحد أسفاري البعيدة والبعيدة جدا.
"كنت أسير في أزقة وطرقات تلك المدينة الشهيرة بتاريخها العريق، أحاول جاهدة الإلمام بكل تفاصيلها صغيرة كانت أم كبيرة، فكل حجر كان يحكي حكاية تختلف عن سواه من الحجارة هناك، وكل جدار من جدران ساحاتها كان يتزين برسومات "جرافيتية" تحمل في طياتها مغزى أو عبرة جميلة، ولما أعياني التعب من كثرة المشي جلست على رصيف الطريق أقصد شيئا من الراحة.
وإذا بجلوسي هذا قد قابل حائطا مرسوما عليه أحد تلك الرسومات الجميلة، حدقت طويلا في اللوحة محاولة اكتشاف ما تحمله رموزها وإشاراتها من معنى، لكني عبثا حدقت ودققت! فاسترضيت نفسي في النهاية بإقناعها بأنه وإن أخفقت في الفوز بمغزى اللوحة، فإنني ربحت النظر إلى جمالها وروعتها، فقررت أن ألتقط لها صورة بعدسة الكاميرا الحديثة التي بحوزتي.
وحين أمسكت بالعدسة لضبطها حتى تكون الصورة على أجمل ما يمكن أن تكون، إذ بامرأة عجوز بشعر أبيض لا سواد فيه، وقفت إلى جانبي، وما هي إلا نظرة واحدة منها إلى تلك اللوحة، حتى قالت بصوت مرتفع وكأنها تعمدت أن يصل صوتها إلى مسامعي: "نعم… لا يمكن لأنصاف العقول وأشباهها أن تخفي نقصها مهما تظاهرت بكمالها"، وأكملت مسيرها إلى حيث تشاء، فنظرت إلى اللوحة مرة أخرى وقد استفزني تفوق ذكاء العجوز على ذكائي، فزاد إعجابي بها كونها جمعت الجمال والحكمة بين زواياها الأربع.
أكملت جولتي السياحية في ثنايا تلك المدينة، وبينما أنا أمشي سمعت صوتا أجش ينادي ويعيد عبارة واحدة لا يغيرها، أخذ صوته يشد أذنيّ إليه ويسرق تركيزي عن سواه، كان يقول عبارة غريبة عجيبة : "اشتر الحق بالمجان"، ظننت للوهلة الأولى أني أخطأت ترجمة عبارته، فأنصت أكثر لسماعه جيدا، فإذا به يقول ويكرر العبارة ذاتها: "اشتر الحق بالمجان" إذن فأنا لم أخطئ الترجمة كما ظننت! فنظرت إلى صاحب الصوت وقد كان بعيدا، فإذ هو بائع يقف خلف طاولة خشبية برفقته صبي صغير، وبلا شعور مني توجهت إليه.
اقتربت منه محاولة اكتشاف أمره، ولكن لكثرة الملتفين حوله بقيت بعيدة شيئا ما، وما إن انفض الناس من حوله قليلا، حتى اختلست النظر إلى بضاعته فأصابتني الدهشة، لقد وجدته يبيع "اللحم" واللحم الأحمر الممتاز! فهل هو مجنون؟ أم أنهم يسمون اللحم "حقا" في هذه البلدة؟
هممت بسؤاله عن غرائب أمره التي جعلتني أقف أمامه كتلميذة تستجدي جوابا لسؤال استعصى عليها، إلا أنه لم يعر سؤالي أدنى اهتمام، وعندما كررته عليه قال لي بجلافة: "خذي أو امضي"، فاحمر وجهي واسود غضبا، وقررت أن أتجاهله كما تجاهلني وأمضي "فعلا" لشأني، "فقد كان حاد الطباع صعب المزاج"، لكن فضولي كان أقوى بكثير من أن أتركه وأمضي كما طلب مني، فوقفت بعيدا عنه أرقبه، وإذ بالصبي يلعب ذهابا وإيابا فتارة يقترب مني وتارة يبتعد، "ولم أكن قد علمت حتى ذلك الوقت علاقته ببائع الحق"، فأحسست بأني سأجد ضالتي عند الصبي لا العجوز.
حاولت استدراج الصبي لسؤاله، ولما أعيتني الطريقة قررت أن أبادر بالأمر بلا مقدمات، فاقتربت منه ممازحة إياه ومداعبة، فطلب مني الكاميرا بلا أدنى تردد حتى يلقي نظرة عليها، فعلى ما يبدو أنه كان يهوى التصوير والصور، وبينما هو يلتقط بعض الصور بالكاميرا، سألته مباشرة :"بكم تبيعون اللحم؟" فقال لي: "إنه حقا وليس لحما ونبيعه بالمجان".
فهمست في أذنه بشيء من المكر: "اشرح لي أكثر.. فأنا لا أفهم شيئا.. هل تسمون اللحم حقا؟". نظر الصبي إلى العجوز فوجده مشغولا "وكأنه كان ينتظرها من لحظة"، فقال لي بكثير من التشويق: "جدي يبيع اللحم للناس بالمجان تكفيرا عن ذنبه".
كم هو رائع أن يشعر الإنسان بثقل ذنوبه فيسعى جاهدا بكل ما أوتي من قدرة على الاستغفار منها، ما أجمل أن نشعر بأن التوبة "حق" علينا لا بد من تأديته قبل موتنا |
ثم اقترب مني أكثر حتى لا يُسمع سر جده أحدا غيري وقال: "كان جدي في صباه يسرق اللحم ويبيعه في السوق، وعندما أصبح عجوزا ندم على ذنبه، وقرر أن يشتري اللحم ويبيعه للناس بالمجان حتى لا يعذبه الله بعد موته"، فرسمت على وجهي جميع علامات الاستفهام والتعجب، حتى أجاري تعاليم وجه الصبي التي كانت تعبر عن سروره العظيم لإفشاء سر جده الذي لا يعلمه سواه.
فسألته: "ولماذا كان جدك يسرق اللحم وهو صبي؟" فقال لي بكل ثقة: "لأنه كان غبيا"، فضحكت ضحكة عالية جدا من ثقة الصبي بكلمته، لكني استدركت نفسي خشية أن ينتبه العجوز فيطلب الصبي، ثم استرسل قائلا: "كان جدي يعمل أجيرا عند جار له ميسور الحال جدا، وكان من عادة هذا الرجل أن يشتري في مطلع كل شهر جديا ويقطعه ويكلف جدي بتوزيع لحمه على الفقراء والمساكين في المنطقة، لكن جدي كان يوزع ثلث الجدي فقط ويبيع الباقي في السوق ويأخذ المال له"، ثم توقف عن الحديث وعاد يلتقط الصور بالكاميرا من جديد، فقلت له: "أكمل وماذا بعد، هل اكتشف الرجل فعلة جدك؟"، فقال لي: "لا لم يكتشف الجار سرقة جدي له، وبقي جدي يفعل هذا لسنوات طويلة حتى مات الرجل".
ثم سكت قليلا وقال لي: "إن جدي يبكي كل يوم على ذنبه هذا ويتمنى ألا يتوفاه الله حتى يدفع كل ما عليه من "حق"، فقلت له: "ومتى سينتهي من دفع كل ما عليه من حق؟"، فقال: "لا أعلم ولكنه على هذه الحال منذ زمن، كلما حصل على مال اشترى به حقا "أي لحما" وباعه للناس بالمجان"، ثم أعطاني الكاميرا بعد أن مل التصوير هنا وهناك، وتوجه مسرعا نحو جده الذي كان لا يزال يبيع الناس قطع اللحم الممتاز، أو بالأصح يبيع "الحق".
ذهب الصبي وترك في جوفي كثيرا من الأسئلة والاستفسارات التي لم أعرف إجابتها، لكن إعجابا عظيما ناله ذلك الصبي وجده مني، هذا العجوز الذي أرق ذنبه مضجعه كل هذه السنين، فقرر أن يجوب الطرقات بـ"ظهره المنحني"، ليبيع اللحم الذي سولت له نفسه يوما سرقته، خوفا من الله وطلبا للمغفرة.
كم هو رائع أن يشعر الإنسان بثقل ذنوبه فيسعى جاهدا بكل ما أوتي من قدرة على الاستغفار منها، ما أجمل أن نشعر بأن التوبة "حق" علينا لا بد من تأديته قبل موتنا!
وما أروعه من صبي هذا الذي استهجن ذنب جده ووصف فعلته بالغباء! وسألت نفسي سؤالا: "أيغفر الله له؟"، فتذكرت قول من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة". أستغفر الله رب العالمين وأتوب إليه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.