(1) التاسع من أكتوبر عام 1553
جلس السلطان على عرشه الذهبي والتف حوله الوزراء ورجال الدولة، بينما انحنى قائد الجيش الإنكشاري وجنوده في مشهد مهيب أقسموا فيه قسم الولاء والطاعة لسلطانهم الجديد. كانت الفرحة عارمة والسعادة طاغية بادية على وجوه الحضور جميعا، صحيح أن موت السلطان سليمان كان مؤسفا فسمح بقدر من الأسى والحزن أن يتسللا لقلوب محبيه، وصحيح أن مقتل أبنائه الأمراء الثلاثة كان ليزيد هذا الأسى خاصة مع وجود أميرا شجاعا بينهم، لكن كل هذا لم يعكر صفو هذه اللحظة التي انتظرها الجميع منذ سنوات عديدة، اللحظة التي يرتقي فيها أميرهم المفضل عرش الدولة العثمانية ويصبح سلطانها وسلطان العالم الجديد .. السلطان مصطفى بن سليمان بن سليم …
لم يكن الأمير مصطفى راضيا عما حدث في الأيام الثلاثة الفائتة، وبالرغم من توتر العلاقات بينه وبين أبيه في الفترة الأخيرة إلا أنه كان يرفض مواجهته حرصا على مشاعر الحب التي يحملها له، لكن قائد جيوشه أكد له أن رسالة السلطان الأخيرة التي أمره فيها بالحضور لمعسكر الجيش المتوجه لإيران تحمل في طياتها حكما بالإعدام، بعدما وشى به الوشاة عند والده وعكروا صفو العلاقة. عارضهم كثيرا وأبى أن يجبر أباه على التنازل على العرش لكنهم أنبأوه بأن بقاء الدولة العلية واستعادتها لأمجاد الماضي يستلزم منه قرارا حاسما يُنحي العاطفة جانبا ويستمع لصوت العقل.
لم يكن أشد المتفائلين يتصور أن تصل الدولة في عهده لهذه المرتبة بين دول العالم، وأن يصبح عصره هو العصر الذهبي للإمبراطورية العثمانية |
تطورت الأمور بعد ذلك بعدما رفض السلطان وجنوده الاستسلام، ودارت معارك دامية راح ضحيتها السلطان، ومات على أثرها الأمير جيهانكير، المحبب والأكثر قربا من مصطفى. وحين استتب الأمر لمصطفى، أوعز إليه رجاله بقتل بايزيد وسليم حتى لا ينازعاه العرش فتغرق الدولة في صراعات داخلية تشغله عن إنفاذ الجيوش لدحر الأعداء المتربصين بالدولة، وتقف سدا منيعا أمام رحلة البناء التي يعتزم مصطفى السير فيها قدما لإعادة الدولة كما كانت عليه في عهد أجداده.
كانت وفاة السلطان مصطفى مفاجئة، وكان رحمه الله سلطان عادلا قويا فلم يسمح للحريم بالتحكم في السلطة أو التخطيط لمستقبل السلطنة من بعده، كما أن أولاده كانوا أمراء أشداء تربوا تربية رشيدة وتلقوا تدريبات عسكرية ممتازة جعلتهم جميعا مؤهلين لاستلام العرش. لكن يبقى البشر بشرا مهما تربت النفوس وسمت الأخلاق، فبمجرد أن ارتقى الأمير محمد ابن مصطفى العرش ونادى به الناس سلطانا، بدأت الصراعات وتصدرت الخلافات المشهد. نازعه أخيه عثمان الأمر في البداية، ثم انضم مراد إليهما وصار لكل منهم أنصاره ورجاله. أفتى شيخ الإسلام -كعادته- بجواز أن يتخلص السلطان محمد من إخوته لكن مراد كان أسرع، دس السم لمحمد وقتل إبراهيم وسليمان، وتبقى له عثمان الذي تولى العرش بعد مقتل محمد.
خمس سنوات كاملة من الصراع أتت على الأخضر واليابس، ثارت النمسا وأهلها وحرروا فيينا، وقاتل الصرب في بلجراد حتى استولوا عليها، وعاد الأسطول العثماني من طنجة خائبا بعد أن قهره الأسبان فهزموه وطردوه واحتلوا كامل الشمال الأفريقي حتى وصلوا إلى بنغازي. في هذه الأثناء كانت أحوال الدولة الداخلية أسوأ حالا، اطلق السلطان عثمان يد الصدر الأعظم في البلاد لضبط الأمن فعاث فيها الفساد، عانى الرعية من كثرة الضرائب المفروضة بعد نفاذ خزينة الدولة نتيجة خروج الكثير من الأراضي من سيطرتها، وبعد توقف الفتوحات وانعدام الغنائم، وما ترتب على ذلك من تذمر الإنكشارية وتعديهم على أموال الشعب.
كانت هذه اللحظات من عمر الدولة بالطبع هي الأنسب لأي طامع في الانقضاض على العرش والفتك بإمبراطورية بني عثمان |
ثم جاءت رحمة الله ومات عثمان واستتب الأمر لأخيه مراد الذي استلم دولة متهالكة، حاول مراد في البداية أن يبث فيها الروح مرة أخرى فكان أن جهز الجيوش لاستعادة الأراضي المفقودة أملا منه في أن يكون ذلك ترياقا للإمبراطورية التي صارت أوروبا تنعتها بالرجل المريض، حاول وبدا أنه قد نجح فعلا في التعافي مما ألم بها جراء صراعاته مع أخيه، لكن تأخر مراد في الإنجاب شكل حاجزا أمام الاستمرار في التعافي، فقد انصب كل تفكيره في الأعوام التالية على ضرورة إنجاب وليا للعهد يستكمل مسيرة بني عثمان التي بدأت قبل ثلاثة قرون. انهمك مراد في البحث عن ضالته في الحرملك وبدأ يهجر الديوان وأمور الدولة، ولما بدا له أن حلم ولي العهد صار صعب المنال انغمس في الشرب وأصبح لا يستيقظ إلا سويعات قليلة.
كانت هذه اللحظات من عمر الدولة بالطبع هي الأنسب لأي طامع في الانقضاض على العرش والفتك بإمبراطورية بني عثمان وهو ما قد كان. جهز محمد جيراي، أحد خانات القرم التابعة للدولة العثمانية، جيشا واتجه به إلى اسطنبول، لم يصمد الإنكشاريون الذين ذبلت مهارتهم العسكرية بعد الابتعاد عن المعارك فترة طويلة وانهزموا هزيمة نكراء أمام تتار القرم. دخل جيراي قصر توبكابي في الثالث من مارس 1582 وقتل كل أفراد السلالة العثمانية، ونودي به سلطانا على أراضي الدولة العلية.
(2)الثالث من مارس عام 2016
في ذكرى مرور 434 عاما على سقوط الدولة العثمانية بعد ثلاثة قرونا كاملة سادت فيهم العالم، كتب أحدهم تدوينة على "الفيسبوك" قال فيها:
"ماذا لو لم يتولى مصطفى بن سليمان الحكم؟ ماذا لو كان قد آثر السلامة ولم يواجه أبيه؟ ربما كان سليمان ليصفح عنه ويعود مصطفى بعدها إلى ولايته، أو ربما قتله واستمر سليمان بعدها في الحكم حتى مات، ربما عاش سليمان سنوات طويلة بعدها حتى توفى مثلا عام 1566، ربما انتقل العرش إلى ابنه سليم، صحيح أن الكثير من المراجع التاريخية قالت بأن سليم كان سكيرا بعكس مصطفى ذي الأخلاق الحميدة، لكن ربما كان سليم ونسله سببا في بقاء الدولة العثمانية عمرا أطول، ربما وصل العرش يوما إلى سلطان ينهي قانون قتل الاخوة فلا تعاني الدولة يوما من انقطاع نسلها، ربما عاشت الدولة بعدها كثيرا حتى يومنا هذا، أو حتى قبل ذلك بعقود، ربما كان مسارا بديلا لمسار قتل مصطفى لوالده القانوني أفضل وأكثر رحمة بالدولة وبنا، ربما تغير التاريخ كله. لكن المسارات البديلة هي فقط مجرد أسطورة، ربما بدا أن مسارا آخرا فعلا قادرا على أن يغير التاريخ، لكن لو كان بإمكان أبطال هذا المسار أن يسلكوه لفعلوها، وما وصولنا لهذه اللحظة الحالية إلا لعجزهم عن السير في أي من المسارات المطروحة حينها إلا الذي ساروا فيه!".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.