شعار قسم مدونات

ما لا تخبرنا به الأغاني

blogs-موسيقى

من المُهم وعلى نحو أكثر صفاءً أن نعترف بحالتنا المربكة مع الموسيقى والأغاني، الأمر عمومًا مرتبط بقدرتها على رفع سقف طلباتنا من المشاعر والإحساس بذواتنا وبتفاعلاتنا الإنسانية مع البيئة المحيطة وصولاً لنمط العيش المُقترح. قد يبدو الأمر مُبالغًا فيه ولكنه بالضبط ما لم تقله الأغاني.

 

إن قدرة الموسيقى والأغنية على وضع "النموذج" لنمط ما نشعر به هو الشيء المُخيف، وأقول مخيف لسبب واحد يتجسد في كون ما نشعر به هو بطريقة أخرى مُعدٌّ مسبقًا لنا وصالح للاستهلاك الشعوري وبهذا يغدو في مرحلة ما مُبتذلاً وغير صادق.
 

عندما كتب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جون بودريار عن "موت الواقع" كان جزء مما تحدث عنه هو التماهي الإنساني مع النماذج المُقترحة لكل شيء بما في ذلك الموسيقى والأغاني التي تتمظهر بالأساس في فرض نمط قيمي واحد يحجب إمكانية الاختلاف ليس فقط في الألوان الغنائية بل أيضا في ما نشعر به.

 

معظم الألوان الغنائية المتداولة حاليًّا، تقدم نفسها للمستمع بشكل غير شعوري باعتبارها حارسة للثقافة التي يحملها المجتمع

ما يُذهلني حقا في هذا العالم المليء باللاشيء هو أشكال التحكم في كل شيء حتى في ما نشعر به، لتنتفي بذلك حريتنا بأن نكون كما نشاء. فتصورنا الأنطولوجي حول ذواتنا يمر أيضا من تصورنا الحر للقيم الجمالية والذوق، سواء في الشعر أو في الموسيقى أو في المسرح وفق وعاء متكامل من الأفكار المنسجمة التي تتلاقى في إطار من التعبير عن الهوية التي ننتمي إليها، فمنظومة القيم التي تحددها الألوان الغنائية المتداولة حاليًّا وفي جميع مراحلها تؤكد على شيئين أساسيين:
 

أولاً: أن الأذواق الغنائية السائدة هي عبارة عن إعادة إنتاج مشوهة للأذواق من ثقافات أخرى مختلفة، ولفهم هذه النقطة تكفي ملاحظة تفحصية لأنماط الألحان المستوردة وأيضا لنموذج الأفكار التي ترتكز عليها بنيات الأغنية ونوع الآلات التي يتم استعمالها، فمثلا لا يستطيع مطرب من قرى إفريقيا أن يستخدم الأورك من أجل أن يوصل رسالته الفنية بل سيختار الطبل بديلاً. ونحن هنا لا نتجاهل سياق العولمة الثقافية وإنما ننبه إلى ضرورة وجود مقاومة ثقافية لهذه الأشكال الغنائية المُستقطبة خصوصا أن قيما عديدة -و عبر سيرورات زمنية- قد تسربت نحو أنسجة اجتماعية مُحدثة تحولات فيها.
 

ثانيًا: معظم الألوان الغنائية المتداولة حاليًّا، تقدم نفسها للمستمع بشكل غير شعوري باعتبارها "حارسة" للثقافة التي يحملها المجتمع، مما يعكس تلك الصورة المعكوسة للقيم التي تتبناها هذه الألوان الغنائية، بل إنها أيضا تُخرج الأفكار والمعايير والقيم السائدة من معناها الأصلي مسببة بذلك تخلخل البنيات الثقافية الموجودة دون النظر في مدى جدواها الوظيفية ودون مراجعة إمكانية التكييف مع الظروف التي تحكم السياق بشكل عام.
 

إن انتقاءنا الفني الغنائي هو الذي من المُنتظر أن يعود بنا إلى الأصل الثقافي والهوياتي للشعوب العربية مثلا بدلاً من هذه الموجة الشبابية التي تتعامل مع الفن والموسيقى بشكل أكثر سطحية وارتجالية نظرا لعدم إدراكها للخصوصية الوجودية للهوية التي تمثلها، ونحن هنا لا نلغي إمكانية التغيير، بل ندعو إليه من داخل المُكون الثقافي، لأنه الوحيد القادر على إضفاء الشرعية على ما يتم إنتاجه، وأيضا للاستمرارية التاريخية لهذه الهويات في تفاعل مستمر ونشيط على المستوى الفني بين الفرد والجماعة وبين الشعوب.
 

إن ما تخبرنا به الأغاني والموسيقى يوجد دائما في كلماتها وألحانها ونقرؤه بدافع الإعجاب والجمال وهو حقنا المشروع، ولكن في المقابل ومع هذه الكثافة الجمالية والفنية يحق لنا أن نتساءل: ما الذي يمكن أن لا تخبرنا به الأغاني؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.