شعار قسم مدونات

حساسية الحرية

blogs-حرية

هل تصدق أني أستطيع التنفس؟؟ فأنا أعيشُ في وطن يَسمح لنا بالتنفس دون فَرض عُقوباتٍ صارمة وغراماتٍ مالية.
 
حقا إنها نعمة كبيرة تستحق كل الشكر والامتنان، فَقليلةٌ هي الأوطانُ التي تسمح للمواطن بالتنفس.

لا تستغربوا يا سادة فأوضاعُنا في الوطن العربي سوف تقودنا يوما ما عاجلاً غيرَ آجل إلى هذا الاعتقاد وسوف نطرب أسماعنا بهذه العبارة أكثر من طربنا بأغاني أم كلثوم لأن سماع الأغاني حينئذٍ سَيُصبحُ أصعب من دخول البيت الأبيض. 
 

مُنذُ بداية عام 2010 ونحن نعاني في الوطن العربي من حساسية الربيع، مرضٌ نشر فَيروساته أولا في تُونسَ الخضراء ثم اتضح لنا أنه مرضٌ معدٍ للغاية فبدأ يَنهش معظم الوطن العربي ولليوم لم نشفَ من هذا المرض بَل على العكس فهو يَتفاقمُ أكثر فأكثر وتَظهر أعراضه بشكل جَليّ مع شُروقِ شَمس كل صباح، ولكن ما هذه الحساسية التي ما زالت قائمة منذ ست سنوات والله يعلم كم ستمتد وأي وطن سيكون التالي؟؟؟ ألم يستطع الطب في القرن الواحدِ والعشرين إيجاد دواء لهذا الوباء؟؟ أما آن لهذه الحساسية أن تنتهي مع انتهاء فصل الربيع؟؟ من الواضح أنها حساسية على مدار الفصول الأربعة.
 

في الوطن العربي نضع أنفسنا في قالب يجعلنا ننظر إلى أبسط حقوقنا على أنها من الرفاهيات والنعم التي يَتفضلُ بها علينا أصحاب السلطة والجبروت 

لكن من المؤكد أنه يوجد حل فلم يَخلِق الله الداء إلا ومعه الدواء. للأسف مَرضُنا هذا لا يَصلحُ معه مشفى ولا طبيب لأن داءنا هذا جاء على هيئة بشر، وحساسيتنا هذه ليس حساسية الربيع بل حَساسيةُ الحرية. نعم حَساسية الحرية، الحرية التي من المفترض أن تكون من الصفات التي تُلاصِقُنا مُنذُ لحظة خروجنا من أرحام أمهاتنا، أصبحت في الوطن العربي مطلبًا عَزيز المنال يَستَحقُّ ثوراتٍ وسفكَ دماء يستحقُّ أرواحًا تُزهق وأطفالاً تُيَتَّم وطفولةً تُسلب وأعراضًا تُهتك ونساءً تُرمّل ورجالاً يَدخلون السجون فتصبحُ أغلى أمنياتهم هي الموت.
 

لا أدري لماذا كل هذه التضحيات فَمطلبنا -على ما أظن- ليس مطلبًا بَديهيًّا فحسب بل هو من المُسَلَّماتِ التي وضعها الله تعالى على الأرض، لكنها في الوطن العربي أخذت مُنحنى آخر وقالبًا جديدًا يتطلب منا أن نَتأَقلم مع مسارها الجديد ونضع أنفسنا في قالبها الفريد من نوعه، قالب يجعلنا ننظر إلى أبسط حقوقنا على أنها من الرفاهيات ومن النعم التي يَتفضلُ بها علينا أصحاب السلطة والجبروت.
 

فَخروجُنا من تحت الأنقاض أكبر نعمة حصلنا عليها لأن عمرًا جديدًا قد كُتِبَ لنا ومُنحنا حقًّا مِن الكماليات ألا وهو حق الحياة. 
 

خروجنا من بيوتنا إلى مدارسنا وجامعاتنا ووصولنا إليها ونحن نلتفت يمنة ويسرة خوفا من أن نقصف أو أن نعود إلى بيوتنا في تابوت خشبي أو أن يتعرض لنا قاطع طريق، هو نعمة عظيمة جدا وحق أعظم ألا وهو حَق الأمان. 
 

حصولنا على رغيف خبر قد تعفن وشربة
ماء تبلل شفاهنا دون معرفة الجلاد ومعاقبتنا هو انتصار كبير جدا وحق أكبر ألا وهو حَق الغِذاء. 
 

إمساكي للمقص لتهذيب شاربي ولحيتي وقص شعري بعد أن يغفل عني الجلاد هو أمر رفاهي بحت وحق رفاهي أيضا ألا وهو حق الاهتمام بالمظهر، جلوسي في مكان عام للترفيه عن نفسي وتنزهي مع صديقتي دون أي مضايقات أو سرقات هو نعمة عظيمة وحق تعجز الكلمات عن وصفه ألا وهو حق الترفيه عن النفس. 
 

إذا استطعت يوما واحدا أن أنام دون أن أستيقظ وأجد نفسي في القبر أو أن أرى صغاري يستجيبون لي وما زالوا على قيد الحياة هو حق سأسجد لله شكرا عليه ألا وهو حَق النوم والأمان.
 

إذا أصبح معي مجال لأن ألاعب طفلتي الصغيرة أو أن أقبل صغيري في ظل الدمار الذي أعيشه هو أعظم حق منحت إياه ألا وهو حق الاستمتاع بأطفالي.
 

وصولي بعد شق الأنفس إلى خيمة تحميني من عذاب الحرب وتقذفني في عذاب الجوع والبرد والألم هو حقا رفاهية أعجز عن التعبير عنها ألا وهي رفاهية وحَق السكن. 
 

أن أصل إلى الخيمة وأنا أتحسس أطفالي أنهم ما زالوا على قيد الحياة حق أصبح يستحق التضحية بروحي ودمي ألا وهو حق العائلة والحياة مُجتَمِعين.

أن أستطيع معالجة جروح طفلي في مركز طبي سيئ للمخيم الذي أقبع فيه هو أمر لا يمكن وصفه أبدا بالكلمات وحق جميل ألا وهو حَق العِلاج. 
 

أن يتصدق علي الناس وعلى أطفالي بلباس لا يكاد يستر عورتي هو حق تريد أن تغفله وتنسينا إياه وهو حَق اللباس. 
 

وإذا أمنت لنا الدولة مدرسة في المخيم فسوف يحصل أطفالي على الحق الذي سيخرجهم من هذا الوحل وهو حَق التعليم، ولا أستطيع أن أغض الطرف عن أهم لقب منحتني إياه ألا وهو لقب لاجئ. 
 

معكم حق، إنها حقوق تستحق منا أن نكتب رسالة شكر للذي منحنا إياها ولكنها ليست أي رسالة شكر، فلو أننا أحضرنا محاقن طبية واستخدمنا دَمنا كَحبر لكتابة رسالة شكر له لكان ذلك قليلا عليه!
 

لا تحدقوني هكذا. ألم أوضح لكم كيف أغدق علينا وأكرمنا بهذه النعم ألا يستحق منا الوفاء؟

لكن هل يمكننا أن نتعرف على سبب هذا الكرم الطائي؟؟ سببه ببساطة أننا طلبنا أبسط حقوقنا ألا وهو الحرية، فمنذ أن طلبناها للأسف ونحن نعامل معاملة الحشرات بل أسوأ، كل الدمار الذي يحيط بنا هو من مطالبتنا بالحرية لأن أصحاب السلطة يرون أنها مطلب من مطالب الطبقة البرجوازية وحُلم يَحرُم علينا أن نحلم به بل يجب أن نقتله قبل أن يتحول إلى واقع.
 

أي حرية هذه التي تريدونها، أي ديمقراطية هذه التي تتغنون بها أجُننتم؟؟ إذا كنتم مُصرين فتَحملوا عواقبها.
 

نعم هذه الكلمة فَعلت بنا الأفاعيل وهي التي سَتُحولُ بديهية التنفس إلى نعمة عظيمة نَحلم بالوصول إليها، لأن سادتنا وكُبراءنا يَرون أن البلاد التي يحكمونها هي بلادهم ونحن نسكنها وأي خروج عن الحقوق التي منحونا إياها سيكلفنا كل شيء. 
 

لكن لابد لليل أن ينجلي ولابد أن تحاسب يومًا يا من حَوّلت أبسط حقوقنا إلى نعم وأمنيات وسيكون حسابك بأيدينا أفظع مما تتخيل، أتدري لماذا؟ ببساطة لأن هذه بلادي وأنت تَحكُمها وليست بِلادكَ ونحن نسكنها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.