شعار قسم مدونات

هل الولايات المتحدة بلد "ديمقراطيّ" (2)

blogs - usa
 
تحدثنا في التدوينة السابقة عن كون الولايات المتحدة "ديمقراطيّة نخبويّة" لا "ديمقراطيّة خالصة"، وسنحاول في هذه التدوينة الحديث عن أحد أهمّ الدوافع الكامنة لهذا الواقع.

أشرنا في التدوينة السابقة إلى التخوّف الكبير الذي أبداه الرئيس الأمريكي الرابع جيمس ماديسون من أن يقوم تكتّلٌ ذو أكثريّة عددية بإقرار قوانين أو اتخاذ قرارات تمسّ حقوق الأفراد أو الأقلّيات، وذكرنا أنّ قضيّة "الملكيّة"كانت هاجسا أساسيّا لدى ماديسون، إذ كان لديه تخوّفٌ من أن تقوم الأكثريّة -الأقل ثراء بطبيعة الحال- بإقرار قوانين توزّع الملكيّة أو تقسّم أموال الأغنياء، أي شكل من "الاشتراكيّة"، مع أن المصطلح لم يكن قد وُجِد بعد في زمنه.

نظريّا، ليس هناك ما يمنع من أن يكون رئيس الولايات المتحدة من حزب آخر أو مستقلا بلا انتماء حزبيّ، لكن هذا الاحتمال مستحيل عمليّا

أشار المفكّر الأمريكي اليساريّ المعروف نعوم تشومسكي إلى هذه المعضلة التي حاول ماديسون معالجتَها، وذكر أن أرسطو تعرّض للمعضلة نفسها، أي التفاوت المادّي أو الطبقيّ بين أفراد المجتمع، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من اضطرابات وقلاقل في مجتمع ديمقراطيّ يمكن للأكثريّة فيه أن تقرّ ما تشاء من القوانين.

كان حلّ أرسطو هو: تقليل التفاوت الطبقيّ والمادّي. فكلّما كان الفرق بين الأغنياء والفقراء أقل، ضعُفَ دافع الفقراء لإقرار قوانين تحدّ من الملكيّة الفردية أو تقللها. أما حل ماديسون فكان الحدّ من الديمقراطية، أي التقليل من قدرة الأكثرية على إقرار قوانين وإجراءات تمسّ بحقوق الأقلّية، خصوصا حق الملكيّة.

بل لقد ذهب النظام الأمريكي إلى أبعد من ذلك في مرحلة من المراحل، حيث كان حق الانتخاب محصورا بمن يمتلكون الأرض، وظلّ هذا نظاما ساريا في بعض الولايات حتى عام 1856، وهذا منسجِم مع حل ماديسون المتمثّل في "تحجيم الديمقراطيّة".

وإذا ما تجاوزنا قضيّة الملكيّة، فالدستور الأمريكي لم يمنح النساء حقّ التصويت إلا عام 1920، أي أنّ بعض من ما زلن على قيد الحياة من النساء في الولايات المُتّحدة وُلِدن قبل إقرار حق النساء في الانتخاب. أما المواطنون الذكور من غير البيض، فقد أُقِر حقّهم في الانتخاب عام 1870، أي بعد أقلّ من قرن بقليل على تأسيس الجمهوريّة.

بالتالي، يمكن القول إنّ الولايات المتحدة قطعت أشواطا مهمّة نحو نظام أكثر ديمقراطية، بمعنى إتاحة المشاركة الانتخابيّة لقطاعات أوسع من المواطنين، وبالتالي فالمسافة تتسع بين تصوّر ماديسون للنظام السياسي الأمريكي، المتمثّل في الديمقراطية المحدودة، وبين الاتجاه الذي يسير إليه النظام السياسيّ الأمريكي. لكن قبل الوصول إلى استنتاجات متسرّعة، علينا أن نتنبّه إلى أنّ هناك تقاليد راسخة تحدّ بالفعل من ديمقراطية النظام السياسي، وتترك بصمة ماديسون والآباء المؤسسين على النظام السياسيّ الأمريكيّ حتى اليوم.

نظام الحزبين ودوره في تحجيم الديمقراطيّة في الولايات المتحدة:
كما هو معروف، يهيمن على الحياة السياسية في الولايات المتحدة الحزبان الديمقراطي والجمهوري، ومنهما كانت الغالبية العظمى من الرؤساء الأمريكيين وأعضاء الكونغرس.

نظريّا، ليس هناك ما يمنع من أن يكون رئيس الولايات المتحدة من حزب آخر أو مستقلا بلا انتماء حزبيّ، لكن هذا الاحتمال مستحيل عمليّا.

لكي يُنتخَب مُرشَّحٌ ما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، عليه أن يزور معظم الولايات الخمسين، أي ما يكافئ زيارة خمسين دولة، وعليه أن يظهر في لقاءات جماهيرية وحوارات تلفزيونية، وأن يعمل معه جيش من المستشارين الإعلاميين والسياسيين والاقتصاديين والعسكريّين>

فالمرشَّح لمنصب رئيس الولايات المتحدة سيُسأل أسئلة صعبة عن الاقتصاد الأمريكي والعالمي بالغَي التعقيد، وسيُسأل عن موقفه من الصين وروسيا وأوروبا والعراق والقضيّة الفلسطينية، وعليه أن يحسب تحركاته جيدا بخصوص القضايا المحلّية التي ينقسم حولها المجتمع الأمريكي بشدّة، خصوصا وأنّ نسبة معتبَرة من الأمريكيين يُعتبَرون من "مصوّتي القضية الواحدة" أو "Single Issue Voters" أي يُصوّتون للمرشح بناء على مطابقة موقفه لموقفهم من قضيّة واحدة ذات أهمّية بالغة بالنسبة لهم، مثل الإجهاض أو تقنين امتلاك الأسلحة.

وبسبب ذلك كلّه، على المرشّح للرئاسة أن يتصرّف بالفعل وكأنّه رئيس للولايات المتحدة حتى قبل انتخابه، وكلّ ما سبق يحتاج لتكاليف باهظة لا يمكن لأي مرشّح مستقلّ أن يحلم بامتلاكِها.

ومع أنّ الغالبية العظمى من الأمريكيين غير منخرطين في عمل سياسيّ أو حزبيّ، إلا أنّ نسبة كبرى منهم يُصنّفون أنفسهم كجمهوريين أو كديمقراطيّين، وغالبا ما يصوّتون لمن ينتهي به بالمطاف مرشَّحا رسميّا للحزب الذي يعرّفون أنفسهم كمؤيدين له. هذه ليست قاعدة مطلقة بطبيعة الحال، فيمكن لمن يعرّف نفسَه بأنه مؤيد للديمقراطيين أن يصوّت لمرشح جمهوري والعكس صحيح، لكنّ الغالب أن يلتزم المؤيد بالمرشّح الرسمي لحزبه حتى لو اختلف معه في بعض القضايا، خصوصا إذا كان هذا المرشّح يتخذ موقفا مطابقا لما يعتبره المؤيِّد قضيتَه الأهم.

ولهذا السبب، يحرص من يرغب فعلا بالوصول للرئاسة على أن يحظى بترشيح أحد الحزبين الكبيرين، حتى ولو كان يعتبِر نفسه بعيدا عن كثير من سياسات كليهما، أو قابعا في أقصى الطيف السياسي الذي يمثّلُه الحزب، أي أقصى اليسار بالنسبة للديمقراطيين وأقصى اليمين بالنسبة للجمهوريّين.

هذا بالضبط ما حصل في الانتخابات الحاليّة، فترامب لم يكن منتميا للحزب الجمهوري، ولا تُعبّر أفكاره عن الاتجاه العام للحزب الجمهوريّ، ولكن لكونه مرشَّحا يمينيا وتُشكّل قاعدة الحزب الجمهوريّ الجمهورَ المرشَّح لخطابه، فإنه ترشَّح عن هذا الحزب.

كلّ مرشّح رئاسيّ يمرّ بعمليّة "تهذيب" أو "تقليم أظافر" مريرة كي يصلَ إلى الترشيح، وهذا ما يجعل المرشَّحين متشابهين في النهاية

ويصحّ الأمر كذلك على بيرني ساندرز، الذي يُعتبَر يساريّا أكثر من اللازم بالنسبة للاتجاه العام للحزب الديمقراطية، ولا يستخدم فقط توصيفَي "يسار" و "ليبيرالية" المألوفين لدى الحزب الديمقراطي وقاعدته، بل يتعدّى ذلك إلى استخدام توصيف "Socialist" غير المُرحَّب به عموما في الولايات المتحدّة، ومع ذلك، ترشّح عن الحزب الديمقراطي وكان من المحتمل أن يصبح المرشّح الرسمي للحزب في انتخابات الرئاسة.

هذه الوضعيّة تحدّ بقدر كبير جدّا من مفاعيل وقدرات الديمقراطية في الولايات المتحدة، فإذا كانت فرصة الفوز بالرئاسة منعدمة عمليّا إذا لم يكن المرشّح مدعوما من أحد الحزبين الكبيرين، فإنّ نيل المرشّح لترشيح أحد الحزبين يُصبح البوّابة الوحيدة للرئاسة، والحزبان ونظام الانتخاب الداخلي فيهما مصمّمان بطريقة تثير دائما كثيرا من الجدل لأنّ لها تأثيرا كبيرا على هوية مرشّح الحزب، بل تأثيرا طاغيا إلى درجة تجعل من المشروع التساؤل عمّا إذا كانت الانتخابات ديمقراطية بالفعل، أو متاحة للجمهور بالفعل كما ينبغي أن يكون عليه الحال في نظام ديمقراطي.

فالمرشَّح للرئاسة في طريقه لنيل ترشيح أحد الحزبين، يدخل في سلسلة لا تنتهي من التنازلات والتوازنات ليضمن ترشُّحَه، وهذه التسويات تشملُ مطابقة موقف الحزب من القضايا شديدة الجدل التي لا تُساوِم فيها القواعد الانتخابيّة، كالإجهاض وتقنين الأسلحة، وتشمل كذلك الحصول على تأييد أكبر عدد ممكن من قادة الحزب وممثّليه في المجلسين وحكام الولايات، ولكلّ هؤلاء نفوذ خطير يترجم نفسَه مالا وتأييدا سياسيّا وإعلاميّا، فضلا عن أنّ نظام الانتخابات الداخلي للحزبين، خصوصا الحزب الديمقراطيّ، يُعطي نفوذا كبيرا لشخصيّات قياديّة في الحزب يمكن أن تؤثّر بالفعل في نتيجة اختيار مرشّح الحزب.

بالتالي، فكلّ مرشّح رئاسيّ يمرّ بعمليّة "تهذيب" أو "تقليم أظافر" مريرة كي يصلَ إلى الترشيح، وهذا ما يجعل المرشَّحين متشابهين في النهاية، أمّا من لا يريدون أن يلعبوا حسبَ القواعد، فتتكفّل هذه العمليّة المعقدة بإقصائهم.

كلّ هذا والمرشّح لم يصل إلى البيت الأبيض بعد، أما حين يصل، فهناك توازنات ضخمة عليه أن يراعيَها، من الشركات الكبرى إلى وول ستريت إلى وزارة الدفاع إلى نفوذ الكونغرس إلى نفوذ الولايات وحكامِها

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان