شعار قسم مدونات

نصف ساعة نجح فيها الانقلاب

blogs - istanbul

أدخل مترو الأنفاق في إسطنبول. صور وجوه تملأ الجدران على جانبي السلالم والممرات المؤدية إلى القطارات. صور عملاقة بالأبيض والأسود لوجوه ضاحكة بغالبيتها.

أقف على درجة من السلم الكهربائي الذي يحفر بي تحت الأرض، وأستعرض تلك الوجوه. أتخيل لها سيناريوهات حياة عبر تفاصيلها وعبر المهن المرافقة لها والتي بت أستطيع تمييزها لأنها بعض مما درسناه في صف اللغة. صحيح أنني لا زلت أتعثر في لفظ بعضها، لكني بت قادرة على مطابقة المعاني بالكلمات. 
 

هذا طالب، وهذا مهندس وذلك عامل، وتلك ربة منزل. وهنا مصمم إعلانات، وهناك "بروفسور" يملك لقباً أكاديمياً استدعى سطرين لكتابة اسمه. 
 

تقفز إليّ بعض الأوراق الرسمية التي كان علي تخليصها فور قدومي إلى تركيا منذ بضعة أشهر، وتترك خانة لأصحاب الألقاب الأكاديمية في التعريف الشخصي. أقول هؤلاء يقدرون التحصيل العلمي، لا في جعل لقب "الدكترة" محط كلام في أحاديثهم اليومية، وإنما في تعريف المرتبة الاجتماعية وما يترتب عنها من سلوك واحترام. 
 

أثناء الانقلاب.. أسدلت الستائر في البيوت، وأغلقت الشبابيك، وبقي الحي على هذا المنوال ثلاثة أيام بلياليها ونهاراتها. لا صوت يسمع إلا مواء قطط عابرة

وهؤلاء، على تنوع مشاربهم وأعمارهم، ثمة تعريف موحد يجمع بينهم كلهم. إنهم، على ما كتب بالخط الأحمر "شهداء 15 تموز". تاريخ المحاولة الانقلابية التي ستطبع تركيا والمنطقة لأعوام مقبلة. ولكل منا قصته معها.

تلك الليلة كنت أنوي النوم مبكراً. جلست مساء في المنزل أطالع "فيسبوك" فإذا بأحد الأصدقاء عالق على الجسر بسبب الدبابات. التفت إلى منهل، زوجي، أسأله إن كان لديه على "نيوز فيد" شيء مشابه.

بدا منقبضاً. لم يصدر منه إلا صوت واحد "العمى… العمى… العمى…". فكرت في أن أقرع باب جارتي التركية التي باتت مقربة مني، أستوضحها، لكنها في أنقرة. أرسلت تطمئن علي في اللحظة نفسها التي أرسلت بدوري أطمئن عليها. لم تتحدث كثيراً قالت فقط "ابقي في المنزل واتركي معك بعض السيولة. اذهبي إلى الصراف الآلي الآن واسحبي "كاش". الوضع ليس على ما يرام. ولم أسمع منها حتى مساء اليوم التالي.

قلت لمنهل نذهب إلى تقسيم لنرى ما يحدث فوجدته وقد سبقني إلى الاستعداد للخروج. شارعنا، لم يشبه نفسه في هذا الوقت المتأخر من الليل، والساعة تناهز العاشرة والنصف. الناس نزلت بثياب المساء إلى الدكاكين والمحال القليلة التي لم تغلق بعد، لشراء المؤن. دكان جارنا اكتظ فجأة بالمتسوقين وفرغ بلحظة من بضاعته.

أسدلت الستائر في البيوت، وأغلقت الشبابيك، وبقي الحي على هذا المنوال ثلاثة أيام بلياليها ونهاراتها. لا صوت يسمع إلا مواء قطط عابرة. حتى الأعلام التي ملأت الساحات والشوارع فور فشل الانقلاب لم تظهر على شرفات الحي إلا بعد يومين أو أكثر.

ليس مرد ذلك أن السكان من الانقلابيين، أو المؤيدين لهم. لا بالعكس. لكنهم مثل بقية مناطق الطبقات الوسطى يلجمون الحماسة ويتوجسون من الجماهير. وهم إلى ذلك يخافون. ذاك أن الحي هو بعض ما بقي من "الأقليات" في إسطنبول… يونان، وأرمن، وبروتستانت وغيرهم.

كنائسهم المتوزعة في الأرجاء عادت حديثاً تفتح أبوابها بين الحين والآخر، وباتت بعض السيدات المتقدمات في السن يضعن صليباً خجولاً في أعناقهن. تلك بعض "مكتسبات" الحي من حكم حزب "العدالة والتنمية" الذي سمح بهامش أوسع لممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين، علماً أن السكان لا يصبون أصواتهم في صناديقه، بل هم ميالون أكثر لأن يكونوا "جمهوريين".

ضحك منهل للمشهد وراح يسخر مردداً عند كل مفترق "طبعاً… بدهم تطمينات". أخبرته "في لبنان هناك قول شائع متناقل عن بيار الجميل" (الجد) في تفسيره لخوف المسيحيين "لا تسأل الخايف ليش خايف. هو خايف وبس".

فور انتقالنا إلى الحي المحاذي تغير المشهد كلياً، كمن غير قناة التلفزيون. حالة هيجان عامة. ناس يتدافعون بالاتجاهات خارج تقسيم ونحن وحدنا نسلك الطريق نحو الساحة.

وصلنا وكانت فرغت إلا من الجيش وشرطة مكافحة الشغب. صورت الساحة ونشرت الصورة على "فيسبوك" فإذا بزميل تركي يتصل ويأمرني بلهجة لم أعهدها "اذهبي إلى المنزل الآن. الوضع سيئ جداً. يبدو انهم نجحوا وسيقومون بتلاوة البيان رقم واحد. هل تسمعين؟ الوضع سيئ".
ولم أسمع منه حتى مساء اليوم التالي.

وصلتنا في هذه الأثناء رسائل إخبارية عاجلة مفادها أن الانقلاب نجح، وأول قرار للسلطة الجديدة هو طرد المعارضين السوريين من الأراضي التركية. وبعدها بقليل أو قبلها، ما عدت أذكر أن الرئيس طلب اللجوء إلى ألمانيا. رحت أردد بدوري "العمى… العمى…".

هكذا إذا، انتهت قصتنا قبل أن تبداً؟ تذكرت من فوري أن غداً، 16 تموز هو موعد تثبيت زواجنا في بلدية إسطنبول. هذا الموعد الذي تأخر مراراً بسبب الأوراق والتدقيق البيروقراطي وغيره.

ولكن ما جدوى المصادقات الرسمية إذا كان منهل أصلاً سيطرد من البلد؟ إلى أين يذهب؟ فهو لا يمكنه حتى أن يأتي معي إلى بلدي… أوبخ نفسي لأني لا شعورياً عدت إلى لبنان من دونه. لكن الحقيقة هي أنني لا زلت أملك مكاناً أعود إليه… رغم كل شيء، رغم الفشل السياسي والنفايات والغلاء، لدي ما أعود إليه… أما هو فلا. ما العمل؟
 

نصف ساعة فقط، انهارت فيها حياتي كما رسمتها واخترتها. يكفي أن أذكرها الآن حتى يعود إلي الانقباض نفسه الذي تملكني لنصف ساعة نجح فيها الانقلاب

تذكرت وائل، صديقي الشامي في بيروت الذي اقترح أن نسافر في إجازة إلى اليونان. قلت له "يا وائل… صعب نحصل على شنغن". فرد ببرود "عادي اطلعوا بالبلم". ضحكنا يومها، لكني الآن على شفير البكاء.. هل يعقل أن تغلق إسطنبول بدورها بابها في وجهنا؟

أنقبض وأنا أبتعد قليلاً عن ساحة تقسيم وأقف في الشارع المقابل. أرى بعض السياح يقفون على نوافذ الفنادق وأفكر أنهم في أسوأ الحالات يلغون إجازاتهم وربما تعوضهم شركات السفر عن خسائرهم المادية. أما أنا، فهذه حياتي الجديدة التي اخترتها لنفسي. حياتي المقبلة التي بدأت اخترع لها تفاصيل أوضبها في الخزائن. كيف "أكنسل" وأعود؟

التفت إلى منهل: وصلتك الرسالة؟ وين بدنا نروح؟ غداً موعدنا في البلدية… "شو قولك؟". لا يقول شيئاً. ينظر إلي فقط بشيء من التأنيب. أرد عليه في سري "نعم، البلد على وشك الانهيار وأنا أفكر بنفسي. هل هذه جريمة؟".

منذ مدة وأنا أراقب تحولات الأفراد من حولي بتأثير الأحداث السياسية، وتغير خياراتهم الخاصة بفعل السياقات العامة. سواء في الارتباط أو الانفصال، في تغيير الشقة أو الإنجاب، في التسجيل في ناد رياضي أو جامعة… في استعادة لون حياة تأجلت تحت وطأة أولويات بدت أكثر إلحاحاً وقابلية للتحقيق، فإذا بها تستعصي أكثر كل يوم. أراقب أيضاً كيف يغير حدث جلل نوع البهارات التي نستخدمها في طبخة ما، وكيف تهوي معها ذكرى الطعم الذي نحمله من منزل الأمهات.

هي نصف ساعة فقط، انهارت فيها حياتي كما رسمتها واخترتها. يكفي أن أذكرها الآن حتى يعود إلي الانقباض نفسه الذي تملكني لنصف ساعة نجح فيها الانقلاب.

وأنا، منذ 15 تموز ذاك، أستقل المترو وأمعن النظر في تلك الوجوه، أصبح وأمسي على أصحابها.. وأحياناً ألتقط نفسي قبل أن أعاتبهم فأقول "كانت نصف ساعة ومضت" فهيا… عودوا أنتم أيضاً إلى حياتكم.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان