ماذا حققت يا تشارلي؟ كيف قضيت أوقات تعليمك في إنجلترا؟ بهذه الأسئلة وجه الوالد حديثه لإبنه الشاب بعد عودته من رحلة طويلة إلى البرازيل، بلاده القابعة داخل القارة المعزولة في أميركا اللاتينية، لكن إجابة طالب العلم كانت صادمة ومفاجأة، وبها قدر هائل من اللا توقع، حينما وقف أمام مثله الأعلى دون خوف أو تراجع، ورمى بإجابته مع مزيدا من الفخر والاعتزاز بما يقتنع به، "والدي العزيز، تعلمت ما هو أهم، لقد وقعت في غرام كرة القدم، ومصمم على نقلها إلى البرازيل"، ومن هنا فقط تغيرت خارطة هذه اللعبة، لأنها باتت في حضرة سحرة الكوباكابانا.
لم يتوقع ويليام ميلر هذه الإجابة، المهندس الاسكتلندي الذي ترك المملكة البريطانية وهاجر إلى البرازيل، ليعمل في مجال قطاع السكك الحديدية، ليتزوج كارلوتا، البرازيلية التي أنجبت له تشارلي، الفتي المعروف فيما بعد بأنه الأب الروحي للكرة البرازيلية، لأنه ساهم في نشر أفكار الساحرة المستديرة في كافة ضواحي ومدن البلاد، بعد عودته من إنجلترا، مهد وموطن تلك الرياضة في سنوات قديمة.
نيمار قائد البرازيل ونجم برشلونة يتمتع بمهارات بديعة، "يوتيوب مان" كما أطلق عليه البعض نتيجة حبه للمراوغة والاستعراض |
حصل البرازيليون على الكرة من الإنجليز، لكنهم أضافوا لها الروح المفقودة، وجعلوها أجمل وأقرب إلى قلوب المشجعين. إنه المنتخب الحاصل على كأس العالم في خمس مناسبات، والفريق الذي قدم للجماهير كوكبة من أبرز نجوم الكرة، حتى صار التغني بسحر السامبا هو الشغل الشاغل لمختلف طوائف المشجعين.
أهدت البرازيل العالم أسماء لا تنسى، أربعة فقط تخطوا مرحلة النجومية وأصبحوا من معالم هذه البلد، إديسون أرانتيس دو ناسيمنتو، "بيليه" الجوهرة السوداء حصل على كؤوس العالم أكثر من مرة، وتمتع بشعبية طاغية مع قربه من دوائر الحكم داخل الاتحاد الدولي لكرة القدم، إنه أسطورة الخبراء أصحاب الياقات الأنيقة، بينما مانويل فرانسيسكو دوس سانتوس، أو غارينشيا الصديق المقرب للبسطاء الذين وجدوا في الكرة ملاذا أخيرا يلجأون إليه عوضا عن الفقر والذل.
غارينشيا ولد فقيرا ومات معدما، بعد أن أمتع الملايين لسنوات طويلة، ولعب كرة القدم بقلبه قبل عقله، ليظل في مخيلة البرازيليين حتى هذا الموسم كما وصفه عاشق البرازيل صديق عبد الهادي في حديثه عن نجوم الكرة هناك، ليأتي برازيليو سامبايو دي سوزا سقراط، الحكيم الذي ترك الطب بمحض إرادته، ليمزج كرة القدم بالسياسة، وينشر قيم العدل والمساواة في البرازيل أثناء الحكم العسكري الغاشم. سقراط لم يكن وحده في الملعب، هناك زيكو وريفيلينو وغيرهم، لكن الدكتور حصل على صيت مضاعف، بسبب جرأته وفلسفته التي أضافت بعد آخر للكرة صاحبة اللعبة الشعبية الأولى في العالم.
قضى عشاق السامبا سنوات طويلة تجرعوا فيها الهزائم والانكسارات حتى مجيء رونالدو، ظاهرة الرياضة وهدافها القوي. أسر حامل القميص رقم 9 قلوب المشاهدين، وقاد "السيلساو" إلى المجد العالمي في 2002 بمساعدة من ريفالدو ورونالدينيو، إمبراطورية الراء في أقوى صورة لها على الإطلاق، جاء لويس نازاريو دي ليما من بعيدا بعد الإصابة اللعينة، ليحقق اللقب العالمي ويضع نفسه زعيم المهاجمين دون منافس.
بعد كل هذه البطولات ومع كل هؤلاء النجوم، وقعت البرازيل في أسوأ فتراتها، لتتعاقب أجيال وضعت راقصي السامبا داخل الوحل، الخروج المتكرر من بطولات "كوبا أميركا"، والخسارة بالسبعة في نصف نهائي مونديال 2014، صدمات تليها سقطات حتى الحلم الأوليمبي في ريو، طوق النجاة لأكثر من 200 مليون برازيلي.
خسر المنتخب البرازيلي كثيرا في ملعب ماراكانا، ولم يحقق الذهب الأوليمبي من قبل، حتى سيناريو النهائي كان غريبا، نيمار يتقدم بضربة ثابتة رائعة، الألمان يحققون التعادل، فرص بالجملة تضيع من أصحاب الأرض في الأوقات الإضافية، ركلات جزاء والكل ينتظر سقوط جديد، لكن الحارس يتصدى للكرة الخامسة، والفتى الذهبي يدخل ليسجل لعبة الحسم، سيناريو "ولا في الأحلام"!
نيمار لن يحقق بطولات مثل بيليه، ولا يتمتع بقصة درامية تجعله آسر للقلوب كما فعل غارينشيا، وبكل تأكيد أبعد ما يكون عن سقراط، خصوصا مع حبه للرقص والسهر، لدرجة أن منتقديه يصفونه بعدم المسؤولية لما يفعله في بعض المباريات، بالإضافة إلى عدم اكتراثه أثناء الهزيمة كرونالدو، دا سيلفا خلطة مختلفة تماما عن كل سابقيه، إنه الإبن الحقيقي للوقت الراهن، مزيدا من الشهرة كثيرا من الإعلام.
نيمار أصغر نجم في العالم، يراهن عليه الكثيرون في أن يكون ملك الكرة في السنوات القادمة بعد حقبة "ميسي-رونالدو"، وتلهث خلفه كبرى الشركات من أجل الترويج لها |
يتمتع قائد البرازيل ونجم برشلونة بمهارات بديعة، "اليوتيوب مان" كما أطلق عليه البعض، نتيجة حبه للمراوغة والاستعراض، يلعب نيمار الكرة من أجل المتعة لا أكثر أو أقل، بالطبع متعة ممزوجة بالمال والنفوذ، حيث والده الذي يستغل الرياضة لكسب المال، مع تمتع حامل اسمه بحب الصغار، الفئة المطلوب استهلاكها إعلاميا وإعلانيا.
يرضى نيمار بدور صديق البطل في برشلونة، لا يدخل أبدا في مقارنة مع ميسي، لذلك يعشقه الكتلان ويحترمه بشدة النجم الأرجنتيني، بينما يعرف النجم الشاب كيف يبتعد عن الضغوطات في منتخب بلاده، ربما القدر كان رحيما به بعد أن أصيب ولم يشارك في مباراة السبعة أمام ألمانيا، لكنه حتى وإن شارك يجيد اللاعب فعليا مقاومة الظروف الخارجة، لدرجة بروده الشديد بعد مهاجمة الجمهور له في بداية الأولمبياد نتيجة النتائج السيئة، فقط صمت وابتسم ورد في النهائي.
هو أصغر نجم في العالم، يراهن عليه الكثيرون أن يكون ملك الكرة في السنوات القادمة بعد حقبة "ميسي-رونالدو"، وتلهث خلفه كبرى الشركات من أجل الترويج لها، نتيجة وجهه الطفولي ووجهه الملائم للكاميرات، مع جرأته الشديدة في التلاعب بالكرة، يتعامل معها وكأنها فتاة جميلة يغازلها على طريقته الخاصة، يقف عليها، يلعبها بالكعب، يستفز خصومه بها، لكنه لا يتوتر أو يعطيها أكثر من ذلك، لأنه يعرف جيدا أنها للمتعة فقط.
يصف إدواردو غاليانو في رائعته كرة القدم في الشمس والظل، الجانب الآخر في اللعبة، وكأنه يتحدث في الوقت الراهن عن أيقونة البرازيل في زمننا الحالي نيمار،"ومن حسن الحظ أنه ما زال يظھر فـي الملاعب، حتى وإن كان ذلك فـي أحيان متباعدة، وقح مستھتر يخرج على النص، ويقترف حماقة القفز على كافة تقاليد الفريق الخصم وعن الحكم وحتى الجمھور، لمجرد متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرمة"!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.