شعار قسم مدونات

نحيلُ العراق

blogs-بدر
لا نمتّ إلى غير منابعنا حين نصاب بلسعة حنين مباغتة إلى العراق، وحين نذهب بعيدًا مع الرافدين؛ فإنّما نذهب إلى أقصى عروبتنا، وحنيننا _أظنُّ _ مصروف حال انتيابه إلى عراق سابق، آخر، أعتق. ربّما هو بلاد ما قبل الظروف التي اضطرت النواب ليقول يومًا "يسيء إلينا العراق وفي الحبّ حلوٌ يُساء". ويخيّل إليّ أنّ جلّ العرب أمسوا لا يحتفظون بصورة حلوة عن العراق الراهن، ولا عن قضيته، ولا عن جرحه. ويح العراق وهو يبتعد ويترّمد.
 

هذا ما أوجع السياب فعلًا، ورمالَ الخليج كذلك، في زيارته المقتضبة الملّوعة إلى الحياة. بدايةً، ليس نحول السياب من سعال المرض والفقر والمهاجر، ولا هو علامة قلق من حرب أو طوفان أو زلزال قد يضربون عراقه، ولا من نذر الآلهة لبابل بالحريق، أوضحَ ممّا هو علامة أرق ورعب من اضمحلال العراق المعاصر كمعنى؛ فلا يمكنك أن تقرأ السياب دون أن تشعر بشحوب رعبِ الكلمات الطافح من مصيرٍ مفجع يتربّص بأرض السواد.

***
 

انحاز السيّاب إلى تصوّف خفرٍ في البعيد، وإلى التأمل بصوت مبحوح في انحباس الأنوار وانحسار الظلال في تفاصيل هامشيّة من أرض الوطن

في الخارج وفي الداخل تكامل منفًى غادرٌ ضروريٌّ لولادة القصيدة العربيّة الحديثة التي يجزم محمود في لا تعتذر عمّا فعلت أنّ الذي لا يكون عراقيًّا لا يكون شاعرًا. وإذ برز في شعر محمود درويش "المتسعدِّ لموته الموعود منفيًّا" جدلُ الهويّة وثنائيّة الجلاد الضحيّة، وحمل النواب في المهاجر دفتر المطر وسخطه البذيء على النظام الرسميّ العربيّ.
 

انحاز السيّاب إلى تصوّف خفرٍ في البعيد، وإلى التأمل بصوت مبحوح في انحباس الأنوار وانحسار الظلال في تفاصيل هامشيّة من أرض الوطن، وفي مغالبة شعور اقتراب الموت المحاصِر؛ ألّا يموت الإنسان مستوحشًا ميتة الشبح، في عالمٍ يطبق على صدر الغريب، يقطع صمته المريب صوتُ ذئاب تعوي من الغيوم والنخيل والكواكب على ليل العراق الطويل.. الطويل.. الطويل، كما تخيّله نحيلُه وهو يشّق عبثًا حجب الظلام في جزيرة العرب.
 

وليلنا.
ولم يكن بعيدُ السياب منفًى على الحقيقة، لكنّه عاشه بوصفه منفى. يقول جبرا ابراهيم جبرا إنّ السياب رأى بعد أنْ أثقله المرض وأنحله أنْ يتعالج في لندن، لكن المساعي التي أخفقت على هذا الطريق قادته إلى مدنية درم، وهي مدينة صغيرة في إنكلترا مشهورة بجامعتها الحكوميّة.
 

هناك تشكّل طريق المقبرة والعودة إلى عراق يميل للأفول، وهناك تعرف الشاعر على خطورة ليل المنافي، ومصيبة الإهمال، ولوعة التوّحد، ألّا تشتريك امرأةٌ ولو بزاوية عينها، أنْ ترجمك النظرات المريبة، وأنْ تعبس في وجهك الشوارع والموانئ.
 

لمْ يجد بدر للمهجر أيّ فضيلة، واعترف في مكتوبه إلى جبرا بأنّه لا يستطيع الصمود أمام ليل بارد وطويل كهذا، وأنّه يشتاق إلى شمس العراق، ربّما لأن سؤال الموت والعراق كانا يلّحان عليه، درم ولندن كانتا في عينيه مغارًا من مغارات قابيل:

من خلل الثلج الذي تنثّه السماء
من خلل الضباب و المطر
ألمح عينيك تشعّان بلا انتهاء
و تقطران الدمع في سكون
كأنّ أهدابها غصون
تنطف بالندى مع الصباح في الشتاء
من خلل الدّخان و المداخن الضخام
تمجّ من مغار قابيل على الدروب والشّجر
ذرا من النجيع و الضّرام
 

لكنّه اختبر من قبلُ شعورَ البعيدِ قرب العراق، في إيران والكويت، بعد أنْ خشي على نفسه المُعتقلَ يوم اضطربت بغداد 1952م، فتسرّب باسم منتحل إلى إيران، ثمّ الكويت، ليهز من هناك أعمدّة الضياء بما يصعد من نشيجِ غريبٍ بصريّ على الخليج:

استسلم السياب لخرافة المجتمع المثالي والتعاونيّ حيث اعتنق بعض الإيديولوجيات بوصفها "نسخًا مبتذلةً من الطوبا

مازلت أضرب مترب القدمين أشعث
في الدروب تحت الشموس الأجنبية
مـتخافق الأطمار
أبسط بالسؤال يدًا نديه
صفراء من ذل وحمى
ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية
بين احتقار وانتهار وازورار أو خطية
والموت أهون من خطيه
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء معدنية

***

بين مقهى حسن العجميّ على نهر شارع الرشيد في بغداد، والذي يوصف بأنّه ملتقى شعراء العراق وحوار الطبقة الوسطى في الأربعينيّات والخمسينيّات؛ حيث توافد عليه إلى جانب السياب الجواهري والبياتي والحصيري وآخرون؛ بينه وبين مقهى الروضة في دمشق الخيطُ المقطوعُ بين بغداد ودمشق، والذي تخيّله النواب في مرثيّة آدم حاتم التي أوجعت الغياب. هاهنا، في مقاهي بغداد، تفتّحت عيونه على القادم الأعمى المخيف. وهنا، في العراق، كوّن منفاه؛ حيث كانت بغداد منفى جيكور في قصائده الأولى.
 

استسلم السياب في تلك المرحلة لخرافة المجتمع المثالي والتعاونيّ حيث اعتنق بعض الإيديولوجيات بوصفها "نسخًا مبتذلةً من الطوبا". ولكنّنا نجد في تفاصيل حياة السياب مبررات ودوافع لتلك الحماقات تجعل الأمر أكثر قابليّة للتجرّع لجهة نزقه وانزلاقه إلى مهاترات سخيفة.
 

عاش هو شخصيًّا فقيرًا متنقلًا بين البطالة وبين وظائف هامشيّة، كما تعرضت أسرته لخسائر ماليّة كبيرة دفعت جدّه لبيع أملاك عزيزة على العائلة، وفقد جدته وأمّه مبكرًا، واكتشف في مراهقته أنّه ليس محبوبًا من قبل الجنس الآخر، وغير ذلك من الشخصيّ والأسريّ والبصريّ والعراقيّ. لقد شعر بمظالم كبيرة شخصيّة وعامّة، وتصوّر أحيانًا حلولًا خلبيّة.
 

وإنني إذ أرى أنّ فقد الأحبّة والأمكنة، وضيق ذات اليد والمرض العضال، والحبّ الذي ليس له رجاء، وغيلان وإقبال؛ قد كانوا العناية الآلهيّة التي حظيت بها موهبة السياب الفذّة؛ فإنّ العراق كان يتجسد في كلّ ذلك أو يهيمن عليه؛ حتى إنّ هذا النحيل الأنيق كان يصرّح بحلول العراق في كلّ أفراحه وأتراحه الشخصيّة، حلوله كمعنى يصاب هو كذلك بالنحول والسعال، ويتهدّده الفناء:

بين مدننا العربيّة اليوم قطيعةٌ كوّنها وقوّاها ملوك ورؤساء فاسقون، تتخللّها أجساد اجتماعيّة وسياسيّة منهكة ومقطّعة ومستضعفة ومستباحة

بالأمس حين مررت بالمقهى سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
يا أنتما مصباح روحي أنتما
و أتى المساء
و الليل أطبق
فلتشعّا في دجاه فلا أتيه

***

وبين البداية والنهاية وقت مختصَرٌ معذِّب لم يقلْ فيه السياب قصيدةً لا يشْتَكي فيها وَلا يتَعَتّب، حتى إنّه ليخيّل إليّ أنّ الخيبة اليوميّة لكلّ ما يصيبه أو يصيب عائلته أو يصيب العراق المتنكِّس كانت رائد قصيدة السياب.

يمكن لنا أن نفهم الخيبة بأنّها علامةُ الأملِ الخادِع بيوم أفضل، لكنّها أكثر وعلى نحو متدهورٍ في أوضاعنا العربيّة علامةُ اليأس من قدوم يومٍ لا نضام فيه. وفي خيوط الخيبة والحزن والأنين والنشيج المتشابكة عبر مفرداته ومعانيه تألّمُ النحيلِ من مصير العراق المتوقّع، لا الواقع، في ضميره وفي ضمير العربيّ العادي. ألّا يفكّر بالعراق، ألّا يُزار، ألّا يُنتظر، ألّا يستغاث به، ألّا يُعاد إليه، ألّا يُستمع إليه لحنًا "ولو حزين ولو حزين"، أنْ يحيل الاسم إلى غير أصوله، إلى غير عراق الرافدين، وعراق الإسلام والعروبة والنخيل.
 

أجل، بين مدننا العربيّة اليوم قطيعةٌ كوّنها وقوّاها ملوك ورؤساء فاسقون، تتخللّها أجساد اجتماعيّة وسياسيّة منهكة ومقطّعة ومستضعفة ومستباحة، يجتاحها الغزاة كما يفور قطيع دود.
 

لا يجدُ العربيّ المعاصر في حواضره التاريخيّة ملاذًا ولا مقامًا، إلّا قليلًا. أليس هذا عينه ما بكاه نحيلُ القصيدة العربيّة المعاصرة في المومس العمياء. أوليس الموت الوضيع المجانيّ الانتهازيّ العميل، الذي يهيمن على بلاد الشام والرافدين من فعل حكومات العصابات والميلشيات اللقيطة من صنائع المحتلّ والغزاة؛ هو الموت الذي تفنن هذا النحيل بالتنديد به في حفّار القبور.
 

أنا زهرة المستنقعات أعب من وحل وطين
كالقمح لونك يا ابنة العرب
كالفجر بين عرائش العنب
أو كالفرات على ملامحه
دعة الثرى وضراوة الذهب
عربية أنا أمتى دمها
خير الدماء… كما يقول أبي
في موضع الأرجاس من جسدي وفي الثدي المذال
تجري دماء الفاتحين فلوثوها يا رجال
أواه من جنس الرجال… فأمس عاث بها الجنود
الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود
يا ليت للموتى عيونا من هباء في الهواء
ترى شقائي

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان