أبشروا فإني لم أقرأ مقال صديقي الشنقيطي ولم أعد أذكر محتوى مقالتي، لكني أذكر العنوان وأصر على أنه لي ولا أتنازل عنه وإن قبلت النقاش في الفكرة والزاوية، فمن يقرأ المتنبي سيصل إلى هذه الحقيقة.
محبة الصدق في القول وتحول ذلك إلى عادة وسنن لا يتبدل، تستدعي ترك كل تمويه حتى لو بدا صبغا لشيب يبدو به شعر الصابغ مكذوبا |
حسن الحضارة مجلوب بتطرية … وفي البداوة حسن غير مجلوب
مَنِ الجآذِرُ في زِيّ الأعَارِيبِ … حُمْر الحِلي وَالمَطَايَا وَالجَلابيبِ
وهي قصيدة رائعة في المقارنة الشعرية بين البادية والحضر، ولذلك مناسبته التي سنتحدث عنها في يوم من الأيام إن شاء الله.
المتنبي في هذه الرائعة يتوقف عند حسن البادية مشيدا به، لا في طبيعته الخلابة وهوائه النقي ومائه المترقرق بل لكونه خاليا من التزويق وطلب الحسن الزائف:
حُسْنُ الحِضارَةِ مَجلُوبٌ بتَطْرِيَةٍ … وَفي البِداوَةِ حُسنٌ غيرُ مَجلوبِ
وهو أمر يتلازم في الشكل والخلقة مع الكلام العادي والأفعال السجية كلها، فالمرأة التي لا تتزوق، لا تعرف مضغ الكلام، ولا لوك المفردات تغنجا مصنوعا وخضوعا ممجوجا، فأفعال السجية لا تعرف التكلف والتصنع:
أفدِي ظِبَاءَ فَلاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا … مَضْغَ الكلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ
على أنه يقرر الربط التلقائي -بلغة العصر- بين التمويه والتزويق وبين صدق المحبة حين يصف نفسه:
وَمِن هَوَى الصّدقِ في قَوْلي وَعادَتِهِ …رَغِبْتُ عن شَعَرٍ في الرّأس مكذوبِ
إن محبة الصدق في القول، وتحول ذلك إلى عادة وسنن لا يتبدل، تستدعي ترك كل تمويه، حتى لو بدا صبغا لشيب يبدو به شعر الصابغ مكذوبا، فالشعر الذي يظهر في لمَّة من صبغ، هو شعر مكذوب لا علاقة له بالشعر الحقيقي الذي ابيضّ.
على أن التزويق أو المكياج بلغة العصر، هو مما يقود إلى غير مرغوب في طبع المتنبي، ألم يقل صاحبنا في مكان آخر:
وَأغْيَدُ يَهْوَى نَفْسَهُ كلُّ عاقِلٍ … عَفيفٍ وَيَهوَى جسمَهُ كلُّ فاسِقِ
فهذا البيت ناطق بأن هوى الأجساد من خسائس الفسقة، لا من طباع الأعفاء العقلاء الذين يهوون النفس بما تحيل إليه من خصائص تتجاوز الأشكال، فلما كان التزويق من طبع الجسد كان أدعى أن يكون محل حب الفساق غير العقلاء ولا الأعفاء.
على أنه لو اشترك العاقل والفاسق -وهما متقابلان هنا عند المتنبي- في هوى الجسد الجميل الذي تهواه كل نفس مهما كان خُلقها وموقفها، فالإطلاق في المحبة لا يعني شرف المحب ولا المحبوب، كما أن العاقل العفيف محب للنفس وإن هوى الجسد مع تلك المحبة الفضلى.
وهنا يسجل أن شارة الحسن أو علامته البارزة في الشخص وفي أوضح مناطق جسمه وهو الوجه، لا يعني شرف الخلائق:
ومَا الحُسْنُ في وَجْهِ الفتى شَرَفاً لَهُ … إذا لم يكُنْ في فِعْلِهِ وَالخَلائِقِ
فالحسن الجسدي لا يكون عنوان شرف ما لم يرتبط وجودا وكينونة بجمال الأفعال والصفات، وهو أمر ينعكس حتى في محبة الأهل والأوطان، فالإنسان السوي وفقا للمتنبي لا بلد له إلا ما وافق، ولا أهل إلا ما صادق:
وَمَا بَلَدُ الإنْسانِ غَيرُ المُوافِقِ … وَلا أهْلُهُ الأدْنَوْنَ غَيرُ الأصادِقِ
وما عدا ذلك يدخل في دائرة النفاق:
وَجائِزَةٌ دَعْوَى المَحَبّةِ وَالهَوَى … وَإنْ كانَ لا يخفَى كَلامُ المُنافِقِ
شعر المتنبي يتعلق بخصائص النفس من شرف ومروءة وإحساس بالجمال وتقدير للعقول لا بالأشكال حتى لو كانت أجساما، ولذلك نظر بازدراء إلى المكياج |
وَما الخَيلُ إلاّ كالصّديقِ قَليلَةٌ … وَإنْ كَثُرَتْ في عَينِ مَن لا يجرّبُ
إنه يعتبر الخيل الحقيقية قليلة في حيوات الناس قلةَ الأصدقاء، إن لهذا الحيوان -وصعب وصف الخيل بذلك، لكنه الواقع- صفات لا تتعلق بالمظهر هي مناط المحبة:
إذا لم تُشاهِدْ غَيرَ حُسنِ شِياتِهَا … وَأعْضَائِهَا فالحُسْنُ عَنكَ مُغَيَّب
إن حسن الخيل هنا مغيب، كما تغيب عن المتعلقين بالأجساد خصائص النفس وميزات الجمال التي لا يمكن تزويقها أو قل مكيجتها إن شئت، لأنها عميقة وليس لأي كان أن يكتشفها ما لم يملك حس العاقل العفيف.
على أن المتمعن في شعر المتنبي -ومن المستحيل سرد الشواهد هنا- يدرك أنه يتعلق بخصائص النفس من شرف ومروءة وإحساس بالجمال وتقدير للعقول لا بالأشكال حتى لو كانت أجساما، ولذلك نظر بازدراء إلى المكياج:
يَهُونُ عَلَيْنَا أنْ تُصابَ جُسُومُنَا … وَتَسْلَمَ أعْراضٌ لَنَا وَعُقُولُ
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.