شعار قسم مدونات

إدانة "السياسي" عربيا

blogs - micro
 
كان أكثرنا فعلًا يحلم في طفولته بأن يكون ضابطًا، فالعسكرية أقصر الطرق إلى البطولة في عيني طفل صغير، وربما كان بعضنا أيضًا يحلم بأن يكون طبيبًا أو مهندسًا أو معلّمًا تحت ضغوط تنشئة اجتماعية معينة، وفي إطار تصوراتها عن تلك المهن.

لكن بعضنا، على الأقل، كان أيضًا في انتظار المرحلة الجامعية كي ينخرط في المظاهرات ضد السلطة، أو في سبيل فلسطين، أو في سبيل استعمار متخيَّل إن لزم الأمر.

منذ مطلع الألفية حاول النظام عبر جهازه الفني في السينما إعادة تعريف "الاستقامة الاجتماعية" بحيث تتضمن العزوف عن السياسة

فعبر أعمال فنيّة تناولت النضال الشعبي ضد الاستعمار (شخصية فهمي في "بين القصرين")، أو حقبة القومية العربية وأحلامها الثورية والاشتراكية (شخصية أحمد في "الباب المفتوح")، أو حتى تلك الأعمال لمثقفين يساريين التي تناولت -بالنقد- الحقبة الساداتية وتبعاتها في عهد مبارك (شخصية حسين وهدان في "البريء")، كانت إحدى صور البطولة التي انطبعت في وعينا كأطفال صغار في العالم العربي، هي صورة الشاب الجامعي الذي يقود التظاهرات والتنظيمات الطلابية ضد إسرائيل أو أمريكا، أو ضد الاستبداد والفساد الذيْن يهيمنان على عالمنا العربي.

كانت شخصية أحمد بطل "الباب المفتوح" (رواية لطيفة الزيات، التي تحوّلت إلى فيلم من إخراج هنري بركات 1963، فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان جاكرتا)، هي نموذج الاستقامة الاجتماعية الذي قدّمته السينما لنا أحيانًا.

فهو متفوّق في دراسته، يحب أخت صديقه، لكن حبه ينطبع بمسحة محافظة تجعله محل تعاطف وثقة اجتماعيين (هذا الخليط بين التقدمية والمحافظة طبع حياة لطيفة الزيات كلّها، وتجلّى في روايتها)، لكن، وللأهمية، مهموم بالتزامه السياسي تجاه وطنه وقضاياه.

أحمد (جسَّدها في الفيلم: صالح سليم) في "الباب المفتوح"، وكذلك محمود (محمود الحديني)، هما فدائيان في مواجهة الإنجليز في الإسماعيلية، حتى ضد رغبة الأسرة، وفي معركة القناة 1956، متطوِّعان للالتحاق بالمقاومة الشعبية. في المقابل، عصام (حسن يوسف)، الشاب المنضوي تحت وصاية والدته، يخاف من الانخراط في القضايا السياسية الوطنية، فيرتبط هذا بكونه شخصيته مستهترة، وخاضعة لشهواتها.

وحتى د. فؤاد الذي يبدو بمعايير المجتمعات التقليدية، نموذجا للنجاح الاجتماعي، كأستاذ جامعي صارم، يتجلّى نموذجًا للأخلاق الزائفة، يتنكّر للحب البريء من جهة في سبيل شهوانية محافِظة، ويفر من جهة أخرى إلى الفيوم هربًا من واجبه الوطني.

ما حدث لاحقًا، وتحديدًا منذ مطلع الألفية، هو أن النظام حاول عبر جهازه الفني في السينما إعادة تعريف "الاستقامة الاجتماعية" بحيث تتضمن العزوف عن السياسة، واعتبار الانخراط في السياسة اصطناعًا زائفًا للبطولة، يخفي وراءه غالبًا رغبات غير نزيهة.

أما النجاح الاجتماعي فيتم تحديده عبر معايير أخرى كالتفوق الدراسي والمهني، مع مسحة من تدين شعائري فردي، وأسرة تحيا نمطًا استهلاكيًا مجرَّدا من الأبعاد الجمالية أو الرومانسية. فالسكن وثير ماديًا، لكنه فقير جماليا، الملابس ثمينة، لكن بلا ذوق، تشاهد الأسرة قنوات الفيديو كليب، لكن لا تتذوق الموسيقى… وهكذا.

التراجيديا الكبرى تمثلت في تسرُّب ذلك العداء للسياسة وتلك الإدانة لها إلى خطاب النخب والأحزاب والتنظيمات السياسية التي صارت تحرص على تأكيد زهدها في السلطة

إن هذا المعيار للنجاح الاجتماعي في جوهره هو المعيار الليبرالي الاستهلاكي، وربما كان من أسباب فشل الربيع العربي، هيمنة ذلك المزاج الليبرالي على الثورات ضد الأنظمة، فكان الطرفان يتفقان جوهريًا -للمفارقة- على نمط الرفاه الذي يسعى كلاهما إليه، وربما يختلفان فحسب على تكتيكات الوصول إليه.

هذا إذا ما استثنينا من الزخم الثوري، تلك المجموعات المسيَّسة فيه، كالإسلاميين واليساريين، وهي المجموعات التي ظلّت قادرة على مواصلة نضالها إلى اليوم.

العداء لـ"السياسي"، أو الارتياب منه، وربما إدانته مسبقًا، كشخص أو كنوع من النشاط، هيمن على المزاج العربي في العشرين سنة الأخيرة، بالتزامن مع العصر الأمريكي الليبرالي. والأزمة أن هذا المزاج لم يتوقف عند حدود الجماهير، بل امتد إلى النخب، ليس فحسب الثقافية، بل السياسية ذاتها للمفارقة!

فمنذ التسعينيات، ترسّخت لدى النخب الثقافية نزعة معادية للسياسة، وللأحزاب السياسية، التي كان المثقف الماركسي أو المحافظ في الستينات لا يمكنه تصور نفسه خارجها، وكان الوجوديون ومن على شاكلتهم من المثقفين الفردانيين، مدانون بالسلبية والرطانة والزيف، كونهم غير ملتزمين تجاه أحزاب أو مواقف سياسية محددة.

أما المثقف اليوم، فيرى أن انخراطه السياسي أو التزامه تجاه حزب أو موقف محدد هو تلوُّث، وصارت دعوى الاستقلالية غطاء للخواء وانعدام الموقف.

لقد استمعت منذ أيام إلى أحد المثقفين في بلد عربي مقبل على انتخابات برلمانية يقول: "سأصوت للحزب الذي لا يصوّت إليه أحد، الوطن". تصفِّق الجماهير لتلك العبارات الجوفاء الساقطة حتى أنفها في دعم الاستبداد وخطابه، الذي لا يمانع في الاعتراف بالفساد طالما أن تهمة الفساد ستحاصر خصومه، ومن ثمّ تجمِّد الحياة السياسية وتسمها باللاجدوى.

إنه لمثير للاشمئزاز أن تنصت إلى ممثل بدرجة مخبر، يقول بتأثر سخيف مصطنع: إن الإخوان والأحزاب يتلاعبون بمشاعر الشعب، لكن لا أحد منهم مع الشعب حقًا. وكأن المؤسسة الأمنية التي أنتجت مسلسله، والتي يفهم هو جيدًا أنه يعمل في خدمتها، هي المشغولة بهموم الوطن والشعب (هذا هو المشهد الأشهر لعزت العلايلي في مسلسل "الجماعة" الذي أشرفت عليه المؤسسة الأمنية في مصر قبل الربيع العربي).

أما التراجيديا الكبرى فقد تمثلت في تسرُّب ذلك العداء للسياسة وتلك الإدانة لها إلى خطاب النخب والأحزاب والتنظيمات السياسية التي صارت تحرص على تأكيد زهدها في السلطة، وأنها لا تطرح نفسها كبديل للوصول إلى السلطة.

أفراد الشعب ذوات فاعلة لا موضوعات للفعل، ومن ثم فهي ملزمة تجاه واجبها السياسي والوطني بدعم مواقف معينة ودعم أصحابها، لا الوقوف موقف المتفرّج تجاهها

تضطر تلك الكيانات إلى ذلك تحت وطأة القصف الإعلامي والفني المستأجر ضدها، والذي يطرح الوصول إلى السلطة كتهمة تُوجَّه مثلًا إلى الإخوان، بحيث لا يدع مجالًا للتفكير لدى المتلقي، في حقيقة كون ذلك تهمة، حتى وإن تم عبر الطرق القانونية أو الديمقراطية. ولا يدع مجالًا أيضا للاعبين السياسيين لتفنيد ذلك الخطاب، إذ ينشغلون فقط بدفع التهمة الوهمية، عبر شعارات من قبيل: هي لله.. هي لله.. لا للمنصب، ولا للجاه.

في الحقيقة، أي سياسي يتورّط في الممارسة السياسية والتزاماتها، ويواجه الاستبداد بجدية، ويسعى إلى الوصول إلى السلطة وطرح برنامج عمل وطني، هو أكثر أخلاقية من أي مثقف يكتفي بإدانة السياسة، وهي الإدانة التي تتحوّل مباشرة إلى إدانة للديمقراطية، لأنها تدين ضمنيًا محاولات مناوَءة السلطة والوصول إليها التي هي جوهر المنافسة الديمقراطية.

لا معنى أيضًا لتقديس الاجتماعي أو تقديم الشعب في دور الضحية النقية التي يتنافس حولها الأشرار. فأفراد الشعب ذوات فاعلة لا موضوعات للفعل، ومن ثم فهي ملزمة تجاه واجبها السياسي والوطني بدعم مواقف معينة ودعم أصحابها، لا الوقوف موقف المتفرّج تجاهها.

أخيرًا، السياسة هي ممارسة أخلاقية بما هي فاعلية إصلاحية، وإدانتها هي سقوط في حمأة الفساد مهما كانت أغطيتها الرومانسية أو مزاعمها الأخلاقوية.

علينا إذن أن نعيد التساؤل حول السياسي في عالمنا العربي؛ هل هو حقًا مهمين على انشغالنا النظري والعملي؟ أم أنه مغبون؟ هل نفكر فيه حقًا ونمارسه بكثافة، أم نفضل دومًا أن نختزله في غيره، كالثقافي أو الاجتماعي؟ ألا نهرب منه أحيانًا لأنه مُكلِّف وشاق، ونفضل أن نحيله إلى سواه؟

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان