شعار قسم مدونات

عندما تصبح تركيا صداعا مزمنا لأوروبا

blog تركيا

عاشت تركيا ليلة الخامس عشر من الشهر الماضي ليلة استثنائية بكل المقاييس، ليس في أحداثها الدرامية وتبدل الأدوار وحسب، بل حتى في نتائج وآثار ذلك على المدى القريب والبعيد.

سنحاول هنا عبر إشارات خاطفة تحليل الطبيعة التركية عبر التاريخ لنفهم الأسباب التي مكنتهم من إنشاء إمبراطورية مترامية الأطراف هي من أعظم الإمبراطوريات في تاريخ البشرية، وما علاقة أوروبا بالأمر؟!

يعود تاريخ نشوء الإمبراطورية العثمانية في بداياته إلى هجرة تلك القبائل التركمانية من أواسط آسيا ولا يعرف بالتحديد من أين، إلا أنها انضوت تحت راية السلطان السلجوقي بعد انتشار الإسلام بين أفراد هذه القبائل.

وقد عرف أفراد هذه القبائل بقوة الشكيمة، والفروسية النادرة، وهو ما دفع بالدولة السلجوقية القديمة إلى الاعتماد عليهم في صراعاتها المستمرة مع الدولة البيزنطية عدوها التقليدي، فدفعت بهم نحو حدودها المتاخمة للبيزنطيين، وأوكلت إليهم مهمة الدفاع عنها وحمايتها.
 

فيما يتعلق بالأوروبيين تحديداً فقد استطاع العثمانيون التنكيل بهم في كثير من المواقع التاريخية المشهورة، كما اقتطعوا أجزاء واسعة جداّ من أوروبا

تميزت هذه القبائل -بالإضافة إلى العاطفة الدينية القوية والفروسية النادرة- تميزت أيضاً بالترابط الاجتماعي الوثيق ، واعتدادها الشديد بقوميتها، وقد شكل هذا جبهة صلبة وقوة قاهرة لا تكاد تقف في وجهها قوة من القوى المحيطة، ولذلك رأينا سلطانها يمتد ويتوسع بسرعة في شبه جزيرة الأناضول، وخاصة بعد حيازة الأمير عثمان المؤسس الأول للإمبراطورية العثمانية على السلطة العليا وتأسيس إمارة له في المنطقة الشمالية الغربية، وكان كثيراً ما يشن الهجمات المتتالية على الأراضي البيزنطية المجاورة، وكان يعود بالغنائم الوفيرة، وبفضل نجاح تلك الهجمات بدأت إمارته تتوسع بشكل كبير.

دأب السلاطين العثمانيون من بعده على التوسع في كل الجهات تقريباً، معتمدين على العنصرين المهمين الذين ذكرتهما سالفاً، من الهوية الدينية والقومية التركمانية المتمثلة في سلالة السلاطين، وقد ساعدهم ذلك بشكل كبير في الوقوف في وجه القوى المناوئة لهم والتي كانت تسعى جاهدة للنيل من إمبراطورتيهم كالصفويين في الشرق والأوربيين في الغرب، وقد دفعت قوة الإمبراطورية العثمانية الصفويين والأوربيين إلى التحالف في بعض الفترات لمواجهة العثمانيين، لكنهم كانوا يبوؤون بالفشل في كل مرة.

وفيما يتعلق بالأوروبيين تحديداً فقد استطاع العثمانيون التنكيل بهم في كثير من المواقع التاريخية المشهورة، كما اقتطعوا أجزاء واسعة جداّ من أوروبا، ليس بداية بالقسطنطينية ولا نهاية بأوروبا الشرقية، ووقف فرسانهم على تخوم حدود فرنسا بل جاوزوها. وبسبب حروبها وتوسعاتها الشاسعة أصبحت الإمبراطورية العظمى في وقتها التي تسيطر على المنافذ البرية والبحرية في المشرق والمغرب.

وكما هي عادة الإمبراطوريات عندما تشيخ تعتريها عوامل الضعف وتنخر جسمها الضعيف نخراً حتى أصبحت الإمبراطورية العثمانية عبئاً على نفسها بترامي أطرافها، ووهن السبب القومي داخل الكيان السياسي، والسبب الديني لدواعي الترف والأثرة وخلافه، مما أعطى للأوروبيين الفرصة الذهبية للنيل من عدوهم اللدود، حيث استطاع الحلفاء هزيمتها في الحرب الأولى، وتقسيم ممتلكاتها الواسعة في المعاهدة الشهيرة "سايكس بيكو"، ولم يكتفوا بذلك بل سعوا إلى نهش الجسم الصلب لهذه الإمبراطورية العجوز ممثلاً في شبه الجزيرة، محاولين اقتطاع ما استطاعوا منها، إلا أن براعة العسكري المحنك " مصطفى كمال" حالت دون ذلك، فقد هزم الروس في الشمال والشرق، والإنجليز في حلب، ورأى سفنهم تجوب البسفور فتصدى لهم .
 

أتاتورك حاول التخلص من الأسباب التي أدت إلى هزيمة العثمانيين في الحرب الأولى، فسعى إلى تغيير الأنظمة البالية بأخرى حديثة ونأى بنفسه عن مشاكل الأقاليم البعيدة

ما من شك أن "مصطفى كمال" حاول التخلص من الأسباب التي أدت إلى هزيمة العثمانيين في الحرب الأولى، فسعى إلى تغيير الأنظمة البالية بأخرى حديثة ونأى بنفسه عن مشاكل الأقاليم البعيدة ، ثم قام باتخاذ خطوة جريئة جداً كان لها أكبر الأثر على الأتراك فيما بعد، حيث وجه بوصلته بالكامل جهة الغرب، قالباً للشرق ظهر المجنّ، فأسس علمانية متطرفةً في موقفها من الدين ظناً منه أن ذلك سيؤدي إلى النهضة المنشودة، واتخذ بعض الإجراءات في سبيل ذلك فقام بإلغاء اللغة العربية ومنع مظاهر التدين في اللباس والتعليم إلى آخر ما هنالك من الإجراءات التي غيرت وجه تركيا إلى وجه علماني غربي .

وهذا بطبيعة الحال جعل الأتراك – وهم المتدينون جداً – يعيشون فيما يشبه التيه، وفقدان التوازن، وظل هذا الأمر ملازماً لهم لعقود طويلة، ولم تفلح محاولات البعض إيجاد حلّ لهذه الأزمة التي وضعهم فيها "مصطفى كمال" من خلال إعادة الحريات الدينية أو حتى جزء منها، فقد كانت تلك المحاولات تصطدم بالحارس الأمين الذي أوكل له "مصطفى كمال" حماية علمانيته وهو الجيش، كما حدث مع "عدنان مندريس" و "نجم الدين أربكان".

نجح " مصطفى كمال" في إقامة جمهورية قومية قوية من وسط ركام الهزيمة، وربما ساعده في ذلك احياء القومية التركية، وفي هذا السياق تسمى "بأتاترك" أي "أبو الأتراك أو سلف الأتراك"، لكن خطأه الجسيم كان في موقفه الحاد من الدين، فشلّ الهوية التركية (باعتبار أن الهوية لا تموت) وقسم المجتمع التركي، وظلت حسرةً في نفوسهم منعتهم من التوحد مدة طولة .

ومع وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة الرجل البارع " رجب طيب أردوغان" إلى منصة الحكم في تركيا وتسلمه زمام الأمور أدرك من البداية هذا الخلل الكبير في بنية الدولة التركية، ووضع يده على الجرح الغائر الذي كان سبباً في تأخر تركيا عقوداً وسيرها البطيء في ركب النهوض، رغم محاولتها اللحاق بالركب الأوروبي لكن دون نتيجة تذكر.
 

أردوغان استطاع الجمع بين القومية التركية والهوية الإسلامية التي أعادها تدريجياً وعلى مدى خمسة عشر عاما كانت كفيلةً بتوحيد الأتراك من جديد

كان أردوغان من الذكاء بحيث استطاع المحافظة على المكتسبات القومية للجمهورية التركية التي حصلت على يد " أتاتورك"، فلم يعلن القطيعة مع العلمانية الكمالية، ولا أعلن الحرب عليها، ولو كان فعل ذلك لدخل في صراع مع الشعب التركي والجيش بالتحديد، وهو صراع محسوم النتائج.

استطاع أردوغان الجمع بين القومية التركية والهوية الإسلامية التي أعادها تدريجياً وعلى مدى خمسة عشر عاما كانت كفيلةً بتوحيد الأتراك من جديد، وإخراجهم من التيه وضياع الوجهة، حتى إذا حدثت محاولة الانقلاب الفاشلة ليلة الخامس عشر من يوليو كان الأتراك قد توحدوا فعلياً قبلها، فكانت هذه المحاولة هي الاختبار الحقيقي والأعنف لمدى توحدهم، ومدى نجاعة العلاج الذي انتهجه "أردوغان" على مدى تلك السنين.

إن موقف الأتراك الرافض للانقلاب وتصديهم له وافشاله، أعاد لأذهان جيرانهم الأوروبيين كابوساً مرعباً وصداعاً تركياً عثمانياً مزمناً، وهذا يفسر المواقف المتخبطة والمتشنجة تجاه فشل الانقلاب، إن ما يرعب الأوربيين ليس شخص "أردوغان" بقدر ما هي تلك الوقفة الصلبة الموحدة التي وقفها الأتراك تلك الليلة، بل رأوا ما هو أعظم من ذلك فقد رأوا المعارضة تتقدم الجموع في إعلانها رفض الانقلاب ووقوفها مع الحكومة والرئيس وخيارات الشعب، وهو ما لم يحدث طيلة التاريخ التركي الحديث.

في ظني أن أوروبا تعيش كابوساً هو من أعظم كوابيسها بعد "هتلر" ربما الأيام والشهور والسنين سوف تبين مقدار ذلك، لكن المؤكد أن صداع أوروبا المزمن بدأ يعاودها من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.