شعار قسم مدونات

ذلك الجيل.. تلك الأيدولوجيا

blogs - man
أنا أنتمي إلى ذلك الجيل، جيل المطرقة التي تعانق منجلا، ذلك الجيل الذي عشق الجهة اليسرى من طاولة الثورة الفرنسية، جيل اليسار.
 

الجيل الذي كان من المفترض أن يكون عابرا لحدود الأديان والطوائف والطبقات والأعراق والقوميات، جيل اليسار الذي قدس الحرية، الحرية بمعنى أنها لا بد وأن تكون بالضرورة نقيض الرأسمالية وعبودية السوق والاستهلاك.

ذلك الجيل
تلك الأيدولوجيا

التهمنا الكتب بنهم للدفاع عن أيدولوجيتنا، كنا نعبد المعرفة وكنا نتخاطب بلغة الأدب، أدب الأيدولوجيا، أيدولوجيا اليسار

كنا نحلم بالثورة، ثورة العبيد والطبقات المسحوقة. إن كتبنا شعرا تغزلنا بالجبهات والأحذية العسكرية والبنادق . كان من الكبائر أن تتغزل بصبية يسارية، فتلك رفيقة درب، درب الحرية .
كانت حبيباتنا الصغيرات يغازلننا بأدوات الايديولوجيا، كأن تهديك من تحب نجمة حمراء منقوش على إحدى طرفينا صورة لآرنستو تشي غيفارا وعلى الطرف الأخر جملة بخط بارز " الثورة ليست تفاحة تسقط حين تنضج، بل عليك أن تجبرها على السقوط "
تلك أشهر جملة حفظناها عن غيفارا

ذلك الجيل
تلك الايدولوجيا
كرهنا الأغنياء بغض النظر عن الطيبين منهم وأحببنا الفقراء حتى المشوهين منهم شكلا وقلبا وروحا، إلتهمنا الكتب بنهم للدفاع عن ايديولوجيتنا، كنا نعبد المعرفة وكنا نتخاطب بلغة الأدب, أدب الأيدولوجيا, أيدولوجيا اليسار.

لم نكن نعترف بشاعر لا ينطبق عليه ما قاله قيصر روسيا إلكسندر الأول بحق شاعرها الفذ إلكسندر بوشكين " لقد أغرق بوشكين روسيا بشعره ونثره الذي تحفظه الشبيبة عن ظهر قلب لابد من نفي بوشكين إلى سيبيريا "

لم نكن نؤمن بالتأمل وفلسفة الهدوء الداخلي فمنذ البدايات الأولى أشعلت رواية " الدون الهادئ " لميخائيل شولوخوف الأمل فينا، كان التطرف يجري في عروقنا، هكذا تحولنا جميعا إلى آكاكي اكاكيفيتش بطل قصة " المعطف " لنيكولاي غوغول، بتنا مثله تماما، نكره السلطة، نعشق بساطة العيش، نحارب إفتراضات الحقيقة ونسجد فقط لحقائق التاريخ وحركة المعرفة .

كان مصطلح تعاسة بالنسبة لنا نوعا من التمايز مستلهمين ذلك مما قاله ليو تولستوي في رائعته " آنا كارينينا " حين كتب " كل العلائلات السعيدة تتشابه, لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة "

ذلك الجيل
تلك الأيدولوجيا
كنا نتبادل جملة لفرط ما رددناها غدت أشبه بالدعاء المستحب، تلك الجملة التي قالها بافل كورتشاغين بطل رواية " كيف سقينا الفولاذ " لقديس الأدب السوفياتي نيكولاي أستروفسكي " تعلم أن تعيش حتى ولو غدت حياتك لا تطاق "

كان الخير والشر يمثلان صراع الانسان مع الانسان، صراع ذاتي، بيننا وبيننا ولا علاقة للسماء بالأمر، هكذا تعلمنا من راسكولينوف بطل رواية " الجريمة والعقاب " للرائع فيودور دوستوفيسكي .

ذلك الجيل
ذلك المتحف الآن
الآن من يصدق أنني أجلس على شرفتي التي تطل على جبال آلبرز في أقصى شمال غرب العاصمة الايرانية طهران، قصة الوصول إلى هذه الشرفة طويلة وشيقة ومعشقة بالتناقض، تناقض اللاجئ الفلسطيني في حياته القائمة على اللاخيار، نعم اللاخيار في المكان والعيش والحب والايديولوجيا اللعينة .

الآن وبهدوء حكيم ساذج أقول :
لم أعد أنا
لم أعد ذلك الجيل
كل الطاولات باتت دائرية
بلا يسار
بلا يمين
بلا جهات
حتى أني بت أشعر وكأني أشبه الدائرة .

إحدى أطوار ما بعد الأيدولوجيا أن تجلس على شرفة منزلك في طهران قبالة الجبال وتقرأ كتاب " اللامنتمي " للكاتب البريطاني كولن ولسن، ربما أقرأه للمرة السابعة فمنذ زمن لم أعد أهتم بتدوين هوسي في قراءة كتاب ما لمرات عدة، فذلك مرض ألفته وألفني ولم نعد نسجل هفوات بعضينا .

يعاني اللامنتمي إشكالية هي في الأساس إشكالية الحرية نفسها، فهو يريد أن يكون حرا ويرى أن ذلك يتناقض بالضرورة مع مبدأ العقل كونه غير حر

إحدى كوارث المعرفة في طور اللامنتمي هو أنه انسان يدرك جيدا ما تنهض عليه انسانيته من أسس واهية، لذلك تراه يشعر بأن الفوضوية أكثر عمقا وتجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه، فاللامنتمي ليس مجنونا، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول .

يعاني اللامنتمي إشكالية هي في الأساس إشكالية الحرية نفسها، فهو يريد أن يكون حرا ويرى أن ذلك يتناقض بالضرورة مع مبدأ العقل كونه غير حر، فالعقل على نقيض مباشر مع الحرية بمعناها الروحي العميق، فجوهر الدين في الأساس هو الحرية ولهذا نجد أن جميع الأنبياء كانوا أحرارا، وبمعنى أدق كانوا يمثلون اللامنتمي على حقيقته، فانتماؤهم الوحيد كان للسماء بمعناها المطلق وليس للايديولوجيا التي أنتجتها الأرض وهي تقيس المسافة مع السماء بأدوات المعرفة والعلم .

طبعا من يعرف كولن ولسن يعرف أيضا أنه كتب كتابا آخر فيما بعد هو كتاب " ما بعد اللامنتمي " وتلك قصة أخرى أكثر جدلا وأكثر تشويقا.

الآن في طور اللامنتمي أحدق باليسار جيدا
أحدق بذلك الجيل
بتلك الايديولوجيا المخذولة
لا أعرف لماذا أراها دائما وكأنها تشبه عجوزا لفرط ما كانت عليه من جمال وهي صبية رفضت كل من تقدم لها بالزواج، لهذا هي الآن وحيدة بجسد مترهل وعقل أصابه الخرف، حتى أنها تقول لأي عابر يطرح عليها السلام بأنها كانت جميلة وكانت شهية وكانت مرغوبة وكانت وكانت …

الآن أحدق جيدا
أرى جيدا
من أحببننا يوما من الرفيقات هن اليوم يدربن عنوستهن على ألفة خطيئة الوفاء .
أرى جيدا
من حين لآخر يجلس اليساري في بارات الرأسمالية ويعزي نفسه بعلبة جعة تحمل صورة غيفارا وينفث دخان سيجاره الكوبي وأغلب أحاديثه عن الدين وضرورة طرده من السياسة.

أرى جيدا
لم نعد نقرأ شولوخوف وتولستوي ودوستوفيسكي وغوغول واستروفيسكي وبوشكين ولوركا وتشيخوف .
أرى جيدا
لم نعد نسمع موسيقى تجر معها رائحة التراب المتبل بالعرق.

أرى جيدا
لم نعد سعداء
أرى جيدا
كم نحن تعساء الآن
أقصد ذلك الجيل
تلك الأيدولوجيا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.