شعار قسم مدونات

أكتب.. كي لا أموت

blog-القلم

الكتابة حاجة روحية في الإنسان، وهي تجلٍ لنعمة البيان التي ميزه الله بها "خلق الإنسان علمه البيان". الكتابة تعني أن تتجاوز حدود ذاتك في الزمان والمكان وأن تفيض على الناس من روحك وتنثرعليهم من بذورك فتسري كلماتك من قلب إلى قلب وتجد لها أنصاراً يتبنونها فتغدو كلماتِهم فتنتصر بذلك على خوفك من الفناء وتشق طريقاً للبقاء بعد الموت.

الإنسان مجبول على مشاركة أفراحه وأحزانه، فالفرح بالمشاركة يعظم أثره، والحزن بالمشاركة تهون وطأته، وأحدنا يجد راحته بشريك روحٍ يبوح له بأسراره ويعترف أمامه بخلجات قلبه، فإذا بيَّن وأجلى استراح وشعر بانزياح الغمة عن قلبه.

إن احتباس الكلمات في القلب مصدر عذاب، فالكلمات إذا ازدحمت في الصدور  لم تجد سبيلاً للخروج إلى فضاء الحياة توشك أن تخنق صاحبها وتفتك به. البيان صحة نفسية لأنه يطلق الحرية الإنفعالية للإنسان و يحرره من الكتمان المضر، ويخلق نفساً سويةً خاليةً من الإزدواج والتناقض فيعيش المرء مستريحاً من أثقال الاختزان، يتوافق ظاهره كباطنه، ليس لديه ما يخفيه فيضفي هذا التوافق على النفس سلاماً وأمناً وطمأنينةً..

لقد خاطب موسى عليه السلام ربه عز وجل: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني" وكأن انطلاق اللسان هو البلسم الشافي لضيق الصدر وازدحام القلب.

رسالة الكاتب لا تكون مؤثرةً إلا بصدقه مع نفسه، إن هناك من يكتب كلمات مهتزةً خائفةً يحرص ألا يخسر بها موقعاً وألا يفوِّت بها مغنماً وألا يُغضب بها خلاً وألا يستثير بها سلطاناً

قد يحتوي القلب أحدنا أمواجاً عاتيةً و عواصف ثائرةً وبراكين متفجرةً، لكنها مقهورة وراء جدار النفس السميك تنفرد بصاحبها وتحاصره وتؤرق ليله دون أن يجد للخلاص منها سبيلاً وإذا مات دفنت معه في قبره، أما حين يكتب الإنسان فإنه يغادر مربع المحدودية والعجز ويتجاوز قيود النفس والزمان والمكان فيشارك عالمه الداخلي مع العالم الخارجي ويعرض على الناس بضاعته فلا تظل المعاني ملكاً خاصاً يستحوذ عليه في قلبه إنما تشيع وتلاقي شبيهاتها من الأفكار فتتفاعل وتنضج وتستوي على سوقها فيأخذ الناس منها ما ينفع حياتهم فتحقق الرسالة المنوطة بها بالتأثير والتحقق في عالم الواقع.

الكتابة ليست شأناً يسيراً، بل هي نفحة من روح القدس، الكلمة قد تقيم عدلاً وقد تمنع حرباً وقد تصحح مساراً وقد تغير تاريخاً. يقول الإنجيل: "في البدء كانت الكلمة"، وفي القرآن يقسم الله تعالى بالقلم وما يسطرون، الكتابة هي التي تنقذ الإرث الإنساني من الضياع وتراكمه وتنميه، لذلك لم تبدأ الحضارة إلا باكتشاف الكتابة، لأن الإنجازات التي لا يدونها الإنسان تتلاشى و لا تستفيد منها الأجيال القادمة و سيكون عليهم أن يعيدوا اختراع العجلة مرةً بعد مرة وفق مبدأ التجربة والخطأ المضيع للوقت والجهد.

بالكتابة شق الإنسان طريق الخلود وبنى صرحاً شاهقاً من العمران لبنةً بعد لبنة، و تعاون في البناء الأولون والآخرون، كل واحد يضع لبنةً ثم يمضي بفناء عمره المحدود لكنه يورث للأجيال حكمةً مستفادةً أو علماً ينتفع به فيترك أثراً ويخلد ذكراً .

الكلمة وحي يلهم النفوس، تبث في الساكتين ثورةً وتحرض الخانعين على رفض الإهانة وتخوف المستكبرين من سطوة المستضعفين وتحرك ماءً راكداً، الكلمة تذكر الناس بحقائق غفلوا عنها وتلين قلوبهم على مسكين ويتيم بين ظهرانيهم وتقيم الحجة على أولي الأمر بإرشادهم إلى طرائق العدل والمعروف وتشيع في الناس حب الخير والاستقامة وتنفرهم من إلف الفساد والانحراف.

الكاتب رسول مكلف من الله بالتبيان: "لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، لكن رسالة الكاتب لا تكون مؤثرةً إلا بصدقه مع نفسه، إن هناك من يكتب كلمات مهتزةً خائفةً يحرص ألا يخسر بها موقعاً وألا يفوِّت بها مغنماً وألا يُغضب بها خلاً وألا يستثير بها سلطاناً، ينمق الكلمات ويموه العبارات حتى يفلت من المسئولية والمساءلة، يمسك العصا من المنتصف متأسياً بالدبلوماسي غافلاً أن قدسية رسالته تفرض عليه الوضوح والمفاصلة في مواطن الالتباس الأخلاقي، هذا الصنف من حملة الأقلام ظالم لنفسه لأن كلماته عاجزة عن بلوغ القلب وطبع الأثر، يظن هذا المسكين أن الناس تنطلي عليهم حيله و التفافاته بسهولة وهو غافل عن أن ما خرج من القلب وحده الذي يصل إلى القلب، وأن الكتابة ليست مهارة لغة وبلاغة بل هي دفقة روح وامتلاءة قلب، و أن المرء يؤثر في الناس بشجاعة روحه لا بذكاء عقله.

أدرك العرب قديماً قوة الروح فقالوا: "ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة"، إن ألف خطيب وألف بليغ لن يحدثوا في القلوب أثراً تحدثه كلمات بسيطة تخرج من قلب أم ثكلى بولدها، القلب هو الذي يتكلم وهو الذي يؤثر وهو الذي يلهم الناس ويبث فيهم الحياة والثورة..

من عاش من أجل رسالة ارتبط بقاؤه ببقاء هذه الرسالة. سيأتي يوم يفنى فيه الإنسان وتشطب تفاصيله الزمانية والمكانية، لكن الرسالة التي عاش من أجلها ستظل باقيةً لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض

إن من إكرام المرء لنفسه ألا يكتب إلا في لحظة يشعر فيها بامتلاء قلبه وتأجج روحه، فتخرج كلماته حارقةً ثاقبةً تخترق القلوب دون استئذان، ربما تزعج الكلمات الصادقة أقواماً كانوا ينتظرون منك أن تجاملهم و تخيب ظنون آخرين كانوا يظنون أنهم يملكونك ويسيرون قلمك، لكن هذا الإزعاج إذا كان في سبيل الانتصار لقضية عدل فهو ثمن طبيعي للتصالح مع النفس، و لأن يعيش المرء مزعجاً للآخرين متصالحاً مع نفسه خير له من أن يعيش مرضياً من الناس مهتزاً من الداخل.

أقام الله هذا الكون على قانون التوحيد، وإن من تجليات التوحيد أن يكون الإنسان موحداً في داخله فيجتمع قلبه في وجهة واحدة نحو غاية واحدة، أما الشرك فهو أن يكون الإنسان متناقض الغايات متردداً مثله كرجل فيه شركاء متشاكسون، يخشى إن أرضى هذا أن يغضب ذاك فيبدد عمره متذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ويخسر أعظم ما منحه الله للإنسان وهو روحه ونفسه.

فطر الإنسان على طلب الخلود، ولما كان خلود الجسد متعذراً أمام قوة الموت القاهرة صار الخلود منوطاً بالروح، لذلك فإن الكاتب الرساليَّ لا يموت لأنه يورث روحه للآخرين، ومن عاش من أجل رسالة ارتبط بقاؤه ببقاء هذه الرسالة. سيأتي يوم يفنى فيه الإنسان وتشطب تفاصيله الزمانية والمكانية، لكن الرسالة التي عاش من أجلها ستظل باقيةً لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.

إن من يكتب في سبيل العدل والانتصار للمستضعفين سيظل باقياً ما بقي على الأرض مؤمن واحد بمثل إيمانه، وإن من دار مع الحق قد ربح الخلود ما دامت السماوات والأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.