شعار قسم مدونات

موسم الحج إلى موسكو

blogs - mosco
 
يشغلني فلاديمير بوتين وباراك أوباما هذه الأيام، خصوصا ونحن نعاين ومنذ بضعة أشهر موسم حج عربي وإسلامي نحو العاصمة الروسية موسكو.

وأزعم أنني أنتمي إلى جيل ترعرع وسط حركات يسارية وقومية جعلت شوارع أمتنا تصدح بذاك الشعار الثوري زمن سنوات السبعينيات والثمانينيات "أميركا عدوة الشعوب". وكان بين ظهرانينا من اختار نفس الموقف لكن بمرجعيته وصياغته الخاصتين، كان الإسلاميون السنيون منهم والشيعة الإيرانيون يَرَون في أميركا ذاك الشيطان الأكبر.

لكننا انقسمنا حول الموقف من موسكو، الاتحاد السوفياتي كانت بالنسبة للقوميين حليفا ضد سياسات واشنطن المنحازة لإسرائيل ووجد فيها اليساريون الحالمون بدولة البروليتاريا وهزيمة الإمبريالية مرجعية مقدسة في بناء المجتمع الشيوعي.

كثير من شعوبنا لم تعد لديها أوطان، صارت تفر منها مثل هروبها من الجحيم، الآلاف التي تغادر سوريا والعراق.. تريد انتماء للإنسانية وليس لوطن مخرب

أما الإسلاميون فناصبوها العداء. شعارها الذي يعتبر الدين أفيون الشعوب جعلهم يثورون في وجه هذه البؤرة المصدرة للكفر والإلحاد. وحتى اليساريون المتنورون انقلبوا فيما بعد على عاصمة الشيوعية العالمية، حين اجتاحت القوات الروسية تشيكوسلوفاكيا التي حلم شعبها بالديمقراطية وليس بديكتاتورية البروليتاريا التي تحولت الي استبداد الحزب الواحد، غضبوا من موسكو واعتبروها قوة إمبريالية مثلها مثل واشنطن.

كل ذلك صار اليوم من الماضي، وعلي أن أمحو الآن كل تلك الترسبات الذهنية، فلكي أعيش ينبغي لي أن أمتلك ذهنا جديدا. ولا أعتقد أنني أجانب الصواب. لم تعد الشعوب تحلم بجنات موسكو أو واشنطن، بوعود فلاديمير بوتين أو باراك أوباما.

كثير من شعوبنا لم تعد لديها أوطان، صارت تفر منها مثل هروبها من الجحيم، الآلاف التي تغادر سوريا والعراق…تريد انتماء للإنسانية وليس لوطن مخرب. وحتى من لم يفر من وطنه خارج سوريا والعراق قايض الديمقراطية بالأمن، صار لهذه الشعوب برنامج سياسي واحد: من يوقف دمار الإرهاب والاقتتال الطائفي.

الأنظمة الآن هي من يردد أن أمريكا عدوة الشعوب. وشيطانها الأكبر، والأنظمة التي يحكمها إسلاميون لم تعد ترى في موسكو جحيم الإلحاد. في القمة المغربية الخليجية التي انعقدت منتصف هذا العام في توقيت متزامن مع القمة الخليجية الأمريكية بالعاصمة السعودية الرياض، ألقى الملك محمد السادس خطاب زعيم ثوري، وحتى إن لم يذكر أمريكا بالاسم، فقد كان يقول ما يشغله ويشغل مضيفيه الخليجين: واشنطن أبرمت تحالفات جديدة على حساب أصدقائها القدامى، وهناك مشاريع لتجزئة الدولة الوطنية في الخليج وشمال إفريقيا وتقسيم سياساتها وترابها.

يومها بدت واشنطن غامضة في نزاع الصحراء، لكن انقلابها كان واضحا في الشرق العربي، تخلت عن اعتبار إيران دولة إرهاب، وتراجعت طهران عن كون الأمريكيين شيطان أكبر. في سياسة الصفقات تراجعت الشعارات والضغائن، أعطى الإيرانيون ضمانات بعدم تهديد أمن إسرائيل وتعطيل برنامجهم النووي، وفي المقابل أطلق الأمريكيون سراح دولاراتهم ونفوذها في الخليج.

ثم رأينا كيف سافر الملك الغاضب من أمريكا إلى روسيا وحجم الاستقبال الذي خصه به فلاديمير بوتين في قصر للكريملين، ونكاية في الأمريكيين صار للخارجية الروسية موقف أقل انحيازا في نزاع الصحراء، وفي المقابل حاز الروس صفقات في الفلاحة والصيد البحري والطاقات المتجددة وعقود التسليح.

أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وقف كأي سلطان عثماني قديم في وجه غضب بوتين بعد إسقاط الطائرة الروسية فوق التراب التركي، فقد وجد هذه الأيام في موسكو حليفه الجديد ومن دون عشق ممنوع. منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة وحزب العدالة والتنمية التركي يرى في أمريكا وأوروبا خصومه الجدد، صارت وجهته الآن نحو خصومه الأيديولوجيين القدامى.

بعد صفقة مصالحة مع إسرائيل جاءت قمة سان بيترسبورغ لتجعل دفء بوتين بالنسبة لأردوغان بديلا عن جفاء أوباما وميركل. وأنا هنا لا أذكر الملك محمد السادس ورجب طيب أردوغان في حكاية موسم الحج إلى موسكو سوى على سبيل الأمثلة الحديثة، ولو شئنا حصر الأمثلة لما أسعفنا هذا المقام، من العراق إلى مصر وليبيا… كانت لكل نظام عربي أو إسلامي مصلحته الوطنية في طلب ود الدب الروسي.

ومع ذلك لست مطمئنا لصفقات موسم الحج الروسي هذه. ما أعرفه هو أن فلاديمير بوتين داهية جيوستراتيجي فاجأ الجميع بما فيهم دهاقنة التخطيط الأمريكي، هو لايؤمن بغير عائدات المصالح القومية الروسية ومشروعها لاستعادة الإمساك بزمام المبادرة الدولية.

يوم لا يجد بوتين ما يأكله من رحلات موسم الحج إلى موسكو سيعود إلى إبرام صفقات اقتسام كعكاتنا مع الأميركيين والإيرانيين

ألم تروا كيف أنه يطرق أبواب المسلمين السنة ويفتح لهم قصوره وفي نفس الوقت يقوي حضوره لدى خصمهم الإيراني، وقد بدا حسن النية لدى طهران حتى سمحت له بأن يستعمل مطاراتها في قصف أعداء بشار الأسد في سوريا وهي المرة الأولى التي يسمح فيها الإيرانيون لقوات أجنبية باستعمال أراضيهم لأغراض عسكرية منذ إسقاط حكم الشاه سنة 1979.

وحتى في نزاع الصحراء المغربي سرعان ما نسي بوتين نوايا عدم الانحياز التي أعرب عنها للملك محمد السادس، وعادت روسيا لتكون أشرس الرافضين لقرار مجلس الأمن حول الصحراء شهر أبريل الماضي. ويقولون في موسكو إنه ليس هناك من رجل يخشاه أردوغان مثلما يخشي بوتين، إنه يملك السلاح بالتأكيد، لكنه يملك أيضا سلاح الغاز والسياح الذين تحتاجهم شرايين الاقتصاد التركي. ولذلك تنازل أردوغان عن شروطه في سوريا، وهاهو يعلن بجدية أنه سيضيق خناق حدوده على داعش… من قال إن عشق بوتين ليس باهظ الثمن فهو مخطئ.

وبالنسبة لحسابات الأنظمة السنية في سوريا والشرق الأوسط فقد وضعها بوتين على الهامش، ومنذ أيام قليلة اتضح أنه أنشأ حلفا روسيا إيرانيا تركيا لتدبير الملف السوري، والأبعد من ذلك وغير المصرح به هو وضع ترتيبات شرق أوسط متحكم فيه من طهران وموسكو وأنقرة.

وأنا أشعر بالتعاطف مع قادتنا وأقدر حجم الضغط الذي يواجهونه في عالم يعاد تشكيله من جديد ويحتاج فيه المرء لأكثر من حليف أو شريك، لكني أراهم يحجون إلى موسكو ليرجعوا الشيطان الأميركي، لكن الدب حين يستبد به الجوع يصير أكثر افتراسا من شهوات الشيطان، ويوم لا يجد بوتين ما يأكله من رحلات موسم الحج إلى موسكو سيعود إلى إبرام صفقات اقتسام كعكاتنا مع الأمريكيين والإيرانيين ويرمي بوعوده لنا في مزابل التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.