شعار قسم مدونات

فسيفساء تركية..

bloggs- turkey
 
كنا في خريف 2012 عندما قررت أن أحزم أمتعتي وأحلامي لإكمال الدراسة في تركيا.. كنا مجموعة من طلاب الدراسات العليا، وفي رحلتنا الطويلة من عمان إلى إسطنبول، ثم من إسطنبول إلى أنقرة، تشارَكنا الحماس لمعايشة التجربة التركية بعد السماع طويلاً عنها.. وكنا نكتشف أننا نحمل التصورات ذاتها عن هذا البلد اللغز في حضارته ونهضته.

وقتها، كان الاهتمام العربي والتوق لكل ما هو تركي، من دراما وبضائع وأخبار، في أوْجه..
قبل عام فقط كان حزب العدالة والتنمية قد حقق فوزه الأكبر في الانتخابات، وترك لنا انبهارات عربية بأصغر برلماني يحقق الفوز بعمر السابعة والعشرين، تُضاف إلى سجل انبهاراتنا بسفينة "مافي مرمرة" وموقف أردوغان ضد بيريز في "دافوس"، وإعادة الاعتبار للحجاب في مؤسسات الدولة، وتنظيف إسطنبول من النفايات وتحويلها إلى حدائق.

في إسطنبول رأيت عينة عشوائية من تركيا، هجينًا يزيد هذا البلد تميزًا وغرابة.. هنا وجدت ابن المدينة العصري والقروي النازح بحثًا عن عمل

استقررنا في أنقرة، وبدأنا رحلتنا لتثبيت القبول الجامعي، هنا اصطدمنا باستحالة التواصل مع الأتراك بأي لغة غير التركية، لكن ذلك زادنا حماسًا لتعلم اللغة.. وفي هذا الوقت كان حماس آخر قد انطفأ لدى صديقتنا المغربية…

كانت "نجلاء" قد أحرزت بجدارة قبولاً في كلية الإعلام بجامعة الشرق الأوسط، وعندما ذهبت لاستكمال إجراءات التسجيل، قيل لها بكل بساطة: لن نقبلك. فهمنا لاحقًا أنه بسبب الحجاب، وأنها لم تكن الوحيدة.. وقف مسؤولو الوزارة عاجزين عن مساعدتها، وبدأت هي مشوارًا طويلاً للبحث عن مقعد آخر في جامعة أقل تطرفًا في علمانيتها.

كان هذا الاختبار الأول الذي فهمنا فيه أن تركيا ليست فقط العدالة والتنمية، وليست فقط شعارات التسامح وتقبل الآخر، ولا بروباغندا الانتصار الساحق لأردوغان على خصومه، فها هي الدولة التي قدمت لصديقتنا فرصة دراسية، لا تمتلك القدرة على إجبار جامعة حكومية على عدم التمييز ضد الطالبات بناء على الزي أو المعتقد، واتضح لنا أن هناك تيارات أخرى متعلّمة وصاحبة قوة ونفوذ تعيش هنا.

بعد عام، لم أحب كثيرًا حياتي في أنقرة، كنت دائمًا أقارنها بإسطنبول، تلك المدينة الساحرة ببحرها وآثارها وتاريخها، حزمت أمتعتي وقررت التوجه إلى المدينة الأجمل ذات الـ15 مليون مقيم وسائح، وكلي أمل أن أذوب بين تنوع ملايينها.

في إسطنبول رأيت عينة عشوائية من تركيا، هجينًا يزيد هذا البلد تميزًا وغرابة.. هنا وجدت ابن المدينة العصري والقروي النازح بحثًا عن عمل، وجدت التركي والكردي والأرمني، وزرت بفضول كبير حي اليهود القديم وسط المدينة.. وجدت بإسطنبول الإسلامي والمحافظ والعلماني والملحد، وجدت القومي المتعصب واليساري الراديكالي، ووجدت المتغرّب الذي يكاد يواري تاريخه، وصاحب الحنين نحو الشرق والفن العثماني..

في جامعة مرمرة، كنا نضطر لقطع الحرم الجامعي الواسع من طرفه إلى طرفه، لنعبر نحو مسجد كلية الآداب لتأدية الصلاة، وعلى الرغم من كون المكان غير نظيف ورطب على مدار العام، فإنه لم يكن أمامنا خيار آخر.. على الجهة المقابلة، وفي حرم آخر لنفس الجامعة يحتضن كلية الشريعة، افتتحت الدولة مسجدًا ضخمًا وفارهًا بقي الإعلام يتحدث عنه لأيام، ويتداول صوره أصدقاؤنا العرب في نشوة وهم يتحدثون عن ما يعتقدونه أسلمة أردوغان للجامعات.

قد يبدو الأمر مغرقًا في التناقض، بين بناء مسجد فاره قد لا يملؤه الطلبة الجامعيون، وترك الطلبة في منطقة أخرى بدون مجرد مصلى صغير ورطب لكل كلية، لكنها تركيا بكل تنوعها واختلافاتها المميزة. تمامًا كالازدواجية بين حي الفاتح الذي يسكنه المحافظون الأتراك، فتراه يعجّ بالمساجد وملاعب الأطفال، وبين حي تقسيم السياحي الذي تملؤه البارات وأماكن المتعة.

هذه الازدواجيات لم تعد تُحدث الدهشة.. فلا أحد هنا يرغب باختزال تركيا داخل انتماء واحد…

تكمن قوة الفسيفساء في تراكب مكوناتها رغم التناقض.. هي ليست لوحة كاملة لا خدش فيها، ولا قصة مدهشة كالتي يرويها مدربو التنمية البشرية

على مائدة الإفطار الرمضانية في قصر الرئاسة، استقبل أردوغان هذا العام أئمة المساجد، والطلبة، وبعضًا من الفنانين والمطربين.. دُعي أيضًا حرفيون وعمال، وعدد من الأطفال والضيوف السوريون، وشخصية أو اثنتين من المثليين.. هنا مكان يتسع للجميع، قد لا يكون الكل متحابين تمامًا، لكنهم متعايشون.

هذه الفسيفساء التركية تبدو كل قطعة فيها قد اختيرت من لوحة مختلفة ذات هوية ناطقة، لكنها تمارس الانتظام في لوحة الوطن الكبيرة، وتعزف كلها نشيدًا وطنيًّا واحدًا لا نشاز فيه..

تكمن قوة الفسيفساء في تراكب مكوناتها رغم التناقض.. هي ليست لوحة كاملة لا خدش فيها، ولا قصة مدهشة كالتي يرويها مدربو التنمية البشرية..

كما أن عيوبها لا تستدعي إنكار جمالها، ولا استحضار نقاط مظلمة من التاريخ، ليُبنى عليها جبال من التشويه..

يختبئ جمال الفسيفساء في تناغم المتناقضات.. وتكمن متعة تأمل الموزاييك في النظر إلى جميع زوايا اللوحة، لا اجتزائها.. فلماذا إذن يرسم العرب عاشقين وكارهين لتركيا لوحاتٍ لا وجود لها؟

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان