شعار قسم مدونات

لماذا تاهت منا ثوراتنا؟

blogs - ethics

عام يمضي وآخر في الانتظار، ولايزال العربي يبحث عن كينونته، يحاول التغيير من حالته التعيسة لعله يضمد جراح الماضي المستبد، بعنفوانية كبيرة ورغبة في النتائج السريعة، لكن غالبا ما يفشل في تحقيق أهدافه ويتوقف عند أول محطة تصادفه في رحلته نحو الخلاص دون أن يدرك أسباب ذلك ويعاود تكرار أخطاء الماضي الأسود من جديد. 
 

إن الثورات السياسية غير المبنية على قاعدة أخلاقية قوية لا يمكن أبدا أن تؤتي أكلها ولو بعد مرور ملايين السنين، لأن تركيزها اقتصر على القشرة الخارجية للتغيير دون مراعاة الجوهر واللب الأساسي المتمثل في الأخلاق والثقافة السياسية أولا، وهو ما أكده التاريخ الإنساني الثوري على مر العصور. 
 

أصبحت ممارسة السياسة الفاجرة أسلوب الكثيرين، حيث يحضر فيها كل ما يمكن تخيله إلا الأخلاق

إننا اليوم كمجتمعات عربية تسعى لغد أفضل بلا حول ولا قوة، تعاني من مشاكل كثيرة في كل المجالات الإنسانية وفساد ينخر كل مناحي الحياة خصوصا السياسة منها، ويكفيك إلقاء نظرة على المشهد العربي اليومي الذي تحول إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف، ويشتري بها الغني الفقير، حتى أصبح الباطل مباحا والمباح باطلا، فماذا ينقصنا نحن العرب؟ 
 

سؤال في سطر واحد، لكن الجواب عنه ربما يحتاج إلى صفحات وصفحات من الكتابة، سوف أختصرها في وجود فجوة أخلاقية حقيقية تحول بيننا وبين نجاح ثوراتنا. 
 

لقد أصبحت ممارسة السياسة الفاجرة أسلوب الكثيرين، حيث يحضر فيها كل ما يمكن تخيله إلا الأخلاق، وإن لم يكن كذلك فبماذا نفسر من يقول إن إرهاب الدولة مشروع أخلاقي مبني على الشرعية وحماية الأمن القومي حتى ولو قتل نصف الشعب وهجر النصف الآخر، وهذا ببساطة يعني أن هناك مشكلة عميقة ليس فقط في ممارسة السياسة بل في التعريف بها أصلا. 
 

أما الذين يمارسون السياسة باسم الدين فيحتاجون إلى مقاربة أخلاقية لتصحيح التصورات واحترام الاختلاف والتعددية والأقليات دون استغلال الدين الذي يتخذوه شعارا فقط لأن الثورة الأخلاقية لا علاقة لها بالفكر والتوجه بل هي ثورة ضد كل من يعامل الآخر على تلك الأسس، لأن الصراع اليوم ليس بين أطياف المجتمع بقدر ما هو صراع ضد الفكر التطرفي الطائفي وضد كل نظام مستبد يستغل عواطف الشعب المغلوب على أمره لزرع الفتن وإذكاء الخلافات الطائفية حتى ننشغل ببعضنا البعض بدل انشغالنا بهموم أوطاننا. 
 

لماذا نحن جد أنانيين عندما يتعلق الأمر بالمصالح؟ نحاول دائما الاستفادة من الأوضاع الراهنة كل حسب إمكانياته، ننتقد الأنظمة والفساد واستغلال السلطة والنفوذ، وفي نفس الوقت نمارسها، لماذا لا نحاسب أنفسنا أولا؟ 
 

نثور نغضب ونرجع مسؤولية هزائمنا وانكساراتنا للآخر أو نربط كل مشاكلنا بنظرية المؤامرة الغربية حتى في ارتفاع الأسعار ودرجة الحرارة. 
 

لا يمكننا الحديث عن دول ديمقراطية دون احترام إرادة الشعوب وخياراتهم

إن إشاعة ثقافة وأخلاق الحوار والتعدد واحترام الاختلاف هي ما ينقص ثوراتنا لكي تكتمل، هي الربيع العربي الذي نحتاجه فعلا لأنه الأساس الصلب والمتين الذي لن تجرأ أيدي ديكتاتور أو مؤامرة غربية على كسره.

ليس من حقنا أن نطالب بغد أفضل ولايزال أبناء الشعب الواحد يتقاذفون الشتائم والاتهامات في كل قضية تطرح للنقاش دون احترام أدبيات الحوار ولا قواعد النقد والاختلاف. 
 

وبالرغم من تباين واختلاف الرؤى بين الكثيرين يبقى أملنا معلقا في اندلاع ثورة أخلاقية فكرية كبرى عبر ترسيخ أخلاقيات السياسة وبلورة الفصل بين الديني والسياسي، وليس السياسة والدين لأن الأديان باختلافها تحتوي على منظومة قيم وأخلاق نحتاجها لترشيد العمل السياسي إلى الطريق الصحيح ليكمل بعضهما البعض وليس أن يحارب بعضهما البعض عبر العدالة الاجتماعية والمساواة بدلا من العنف والطائفية التي دمرتنا أكثر من الأسلحة الفتاكة والصواريخ. 
 

فلا يمكننا الحديث عن دول ديمقراطية دون احترام إرادة الشعوب وخياراتهم مع احتضان جميع الفرق والفصائل باختلاف توجهاتها الدينية والسياسية والأيديولوجية لكي تصبح السياسة تربية تلقن للأجيال القادمة مثلها مثل طريقة الأكل والشرب. 
 

لقد حان الوقت إلى وقفة يكون فيها التفكير عميقا وأكثر جرأة لنستعيد ما أخذ منا، لنكون جزءا من الغد الذي نحلم به لنتحمل مسؤولية أخطائنا، لنقف جميعا وقفة رجل واحد على قلب وطن عربي موحد يجمع هذا الشتات المتناثر هنا وهناك.

نعلم أن الرحلة طويلة وشاقة لكنها ممتعة في نفس الوقت إذا كانت بدايتها أخلاقية معرفية متشبعة بالقيم والمبادئ نتحمل فيها مسؤولية قراراتنا ونبتعد فيها عن النقاشات الجوفاء التي تفرق أكثر مما تجمع.

فلنحب بعضنا بنفس الدرجة التي نمقت بها اختلافنا، لنثقف ذواتنا، لنتسلح بالمعرفة الأخلاقية باعتبارها السلاح الوحيد الناعم والكفيل بإنارة طموحاتنا الفتية. 

ولنؤمن إيمانا صادقا أن الإصلاح يبدأ بالذات أولا، حتى نتسلم مشعل مستقبل أوطاننا التي عانت الجهل والظلم لعقود طويلة. 
 

اليوم فقط أدركت أين ذهبنا عندما قال الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
                                               
لتبقى أزمتنا أننا لا نفهم أن السياسة والحداثة والتقدم قبل أن تكون شعارات رنانة نستغلها للعب دور الضحية، هي سلوكيات يومية يجب أن نمارسها في حياتنا اليومية حتى لا تتوه منا ثوراتنا.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان