شعار قسم مدونات

فنجان قهوة.. بيضة الألف عام

بيضة الألف عام

أعرف برنامجا أميركيا اسمه Bizarre Foods with Andrew Zimmern يقوم فيه هذا الرجل آندرو الذي تطوع وهو بكامل قواه العقلية بأن يتقاضى أجرا حتى يجوب الأراضي السبع باحثا عن أكثر الأطعمة إثارة للاشمئزاز في العالم، وتجربة أسوأ الأكلات على وجه الكرة، والوصول إلى قمة الإبداع البشري في استهلاك ما هو مقرف ومقزز.
 

ما أثار اهتمامي في هذا البرنامج هو قدرة المذيع المبهرة على أن يتجاوز كل حدود التعود والأريحية وأن يتقبل نفسيا أن يجرب أشياء من قبيل دماء الحيوانات، والكائنات المخاطية اللزجة، وعيون الأسماك من باب أن يضع نفسه في مكان تلك الشعوب أو القبائل أو الحضارات التي تعد ما نراه نحن مثيرا للغثيان وجبة شهية لا مثيل لها، طبعا بغض النظر عن كونه يتقاضى مبالغ لا بأس بها ليتجرع تلك الأشياء.
 

نحن كبشر نحب أن نحس بأننا مقبولون، ولأجل هذا نعتقد بأن الطريقة المثلى لتحقيق القبول هي بأن يتبعنا الناس أو نتبعهم.

غالبا يوجد في حياتنا جميعا ذلك الصديق الذي يعتقد بأننا يجب أن نغسل شعرنا بغسول الشعر الفلاني، أو القريبة صاحبة الاعتقاد الجازم والإيمان العميق بأن تناول السمك ليلا يسبب كوابيس لها علاقة بالغرق والماء وأسماك القرش، أو الأم التي ترى أن هناك طريقة واحدة لا ثاني لها لترتيب ملابسك في الدولاب، أو الأب الذي يحكم عليك بالفشل لأن لا تمسك بمقود السيارة كما يفعل هو.
 

نحن أيضا نقع في نفس هذه الأخطاء عندما نلح على أخ أو صديق أن يمارس هوايتنا المفضلة لأنها ستعجبه كثيرا، أو يشاهد فيلمنا المفضل لأنه رائع ولا يختلف عليه اثنان، أو نتهم صديقة لنا بالجنون لأنها لا تحب أن تتناول طعاما معينا أو لا تقتنع بحديث الشخصية الفلانية.
 

في كل تلك الحالات فإن سبب هذه المواقف هو عدم قدرتنا على إدراك أنه يمكن بكل تأكيد -بل من الطبيعي- أن أحب أنا الشاورما بالثوم بينما يحبها زوجي بصلصة الطحينة مثلا دون أن يكون السبب خللا في خلايا التذوق عند أحدنا!
 

نحن كبشر نحب أن نحس بأننا مقبولون، ولأجل هذا نعتقد بأن الطريقة المثلى لتحقيق القبول هي بأن يتبعنا الناس أو نتبعهم. ولأن الغرور من صفاتنا التعيسة الأخرى فإننا بالطبع نفضل أن يتبعنا الآخرون لا أن نتبعهم، فتتحول رغباتنا المكبوتة فور أن نتحلى بشيء من التأثير المعنوي أو المادي إلى سلطوية ودكتاتورية تتماشى مع سلوك الطواغيت. قلت مرة: كلنا طواغيت، وليس بالضرورة أن تكون حاكما على ملايين البشر حتى تكون طاغية.
 

طغى يعني تجاوز الحد، وطغى الماء أي فاض، وطغى الشخص أي أسرف واستبد، وعليه فإن أصغر طاغية فينا قد يكون الأخ الذي ينتزع جهاز التحكم من أخته الصغيرة جبرا واقتدارا ليتحكم فيما يشاهدون بينما هو في الحقيقة لا يكترث للتلفاز من الأصل، ولكن فقط لأنه يستطيع فهو يفعل.
 

وهكذا ندور في دوامة الأفعال الدكتاتورية الصغيرة ونسلط على الناس سيوف الحياء وسيوف الإحراج وسيوف السلطة الاجتماعية حتى نأخذ منهم ما نستطيع أو نجبرهم على أن يسيروا على خطانا الرشيدة التي لا بد وأنها عين الصواب وغاية الفائدة، كيف لا ونحن أنفسنا اخترناها وحاشانا أن نختار ما لا يصلح للبشرية جمعاء!
 

الشخصية محدودة التفكير وقصيرة النظر تتمركز حول الذوق الشخصي، وتصبح عمياء أمام قيمة الحق.

أعتقد أن أيا منا يمكنه أن يتابع عدد المرات التي يتجاوز فيها الحد مع الناس فيتخطى النصيحة ومشاركة التجربة إلى محاولة فرض أسلوب حياة على الآخرين أو مطالبتهم بقبول اختيارات ليست هي خياراتهم الأولى، وكل ذلك لأننا ببساطة لم نتعلم أنه بالإمكان أن يأكل الناس عيون السمك وهم سعداء وراضون بينما نتقزز نحن، ولا يعني ذلك أي شي سوى أننا مختلفون فقط.
 

مختلفون في طريقة حياتنا ومختلفون في طريقة لباسنا وفي طعامنا وشرابنا وفي ما نحب أن نقضي به وقتنا، ولكننا مشتركون في أننا بشر وفي قيمنا الإنسانية. من المخزي أن تجد رجلا يفضل أن يمضي وقته برفقة لص أو منافق فقط لأنه يحب نفس فريق كرة القدم خاصته، بينما يتهجم على جاره المستقيم بالسب والشتائم لأنه يشجع فريقا آخر. العقل الصغير الذي يقبع في خبايا جمجمة هذه الشخصية محدودة التفكير وقصيرة النظر تمركز حول الذوق الشخصي، وأصبح أعمى أمام قيمة الحق.
 

ستسألونني ما علاقة كل هذا الكلام ببيضة الألف عام؟

بيضة الألف عام هي وجبة صينية يقوم فيها الناس بوضع بيضة في خليط من الطين والرماد والملح وتترك لأسابيع أو شهور، حتى يتحول الصفار إلى مادة خضراء أو سوداء اللون، تبعا لدرجة التعتيق، ويتحول البياض إلى لون بني داكن. في الصين يُعد تناول هذه البيضة من الأشياء التي يرفه بها الناس عن أنفسهم ويقدرها الذواقة منهم.
 

نردد طوال الوقت "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع" لكن الحقيقة أننا لا نرى سوى ما نرى

إذا عدت إلى تاريخ استدلال الناس على مثل هذه الطريقة لتناول بيضة ستجد أنها (هذه الفكرة) نبعت من حاجتهم لحفظ البيض فترات طويلة دون أن يفسد أو يسبب لهم حالة من التسمم إن صح التعبير، بينما ننظر نحن إلى النتيجة النهائية وهي البيضة المتعفنة.
 

كذلك الأمر بالنسبة لطباع الناس المختلفة وتفضيلاتهم في الحياة، أنت لا تعرف من أين اكتسب أحدهم عادة تناول الملوخية باردة، أو طريقة ربط شريط حذائه، التي ربما تكون شيئا يشاركه مع أحد من أفراد أسرته أو تفصيلة يذكر بها اجتماعاته العائلية وهو طفل، فتأتي أنت بفلسفتك العميقة عن طريقة ربط شريط الحذاء الصحيحة، وبجبروتك المؤمن بأنك أفضل من يفعل ذلك لتقهره ليسير وفق ما ترى دون أي اعتبار لما يسمى باختلاف الأذواق.
 

وإن كنا نردد طوال الوقت "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع" لكن الحقيقة أننا لا نرى سوى ما نرى، ولا نعاشر إلا من يوافق هوانا، ويا لها من حياة فقيرة تلك التي لا يعبرها إلا نهر واحد.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان