السلطة العسكرية في مصر لم تستوعب دروس الماضي، فهي تنتهج سياسة "كسر العظم" دون وجود أي أفق للحوار أو جمع الأطراف على كلمة سواء. وهذه الخطيئة تتضح بشكل صارخ في سيناء، حيث يَدفع الجيشُ المصري بتعزيزات عسكرية إلى هذه المنطقة الحساسة في ظل غياب تام للحلول السياسية.
من الواضح أن الجيش المصري يرمي -من وراء هذه العملية الأمنية- إلى إظهار قبضته الحديدية في رسالة واضحة إلى الأطراف الداخلية، وهذه الرسالة مفادها أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على فرض الأمن وإحلال السلام وإدارة البلاد من الألف إلى الياء.
وهذه رسالة بالغة الخطورة لأنها تنسف النظام السياسي المصري برمته، وتجعل الأطرافَ السياسية متفرجين لا أكثر ولا أقل، مما يؤدي إلى عسكرة السياسة بالكامل، وتولي الجنرالات إدارة البلاد ورسم حاضرها ومستقبلها، وهنا تكمن مشكلة مصر الحقيقية، وتظهر حالة الانفصام في شخصية صانع القرار.
عند العسكر كل معارَضة تُعتبر خيانة، وكل رأي آخر يُعتبر محاولة انشقاق، وهذه الفلسفة العسكرية تتعارض جُملة وتفصيلا مع العمل السياسي |
فالمؤسسة العسكرية التي تَحكم مصر هي بُنية تراتبية ذات طبقات متماسكة تخضع للأوامر واللوائح بشكل صارم، وكل طبقة تتلقى الأوامر من الطبقة التي تعلوها دون نقاش، وهذا النظام الصارم معتمد لدى جميع المؤسسات العسكرية في العالَم.
إذ إن أساس العمل العسكري لا يعترف بالحوار أو المناقشة أو الاستدراك على أوامر القادة، فيجب السمعُ والطاعة وتلقي الأوامر وتنفيذها دون تأخير، وكل معارَضة تُعتبر خيانة، وكل رأي آخر يُعتبر محاولة انشقاق، وهذه الفلسفة العسكرية تتعارض جُملة وتفصيلاً مع العمل السياسي. فالسياسةُ تعتمد على الأخذ والعطاء وتنازل الأطراف للوصول إلى حلول وسط، والجلوس على طاولة المفاوضات وانتهاج مبدأ الحوار والاستماع للرأي والرأي الآخر ووجودُ سُلطة ومعارَضة دون اللجوء إلى التخوين أو الطعن في وطنية الموالين أو المعارِضين.
والخطأ الكارثي أن المؤسسة العسكرية المصرية تريد لعب الدورَيْن معاً، وهذا مستحيل نظرياً وواقعياً؛لأن الضدين لا يجتمعان. فالجيشُ المصري المسؤول عن حماية البلاد من أي عدوان خارجي اقتحم عالَم السياسة على غير بصيرة، فأعلن خارطة الطريق، ونصَّب رئيساً مؤقتاً وحكومةً، ونشر الدبابات والجنود في الشوارع. وهذا الانتقال من الخارج إلى الداخل ومن الثكنات إلى الطرقات سيلغي دورَ الجيش الوطني ويَسحبه إلى حرب استنزاف داخلية طويلة الأمد تكلِّفه الكثير من الأرواح والوقت والجهد والمال، ولا يخفى أن مصر في أمس الحاجة للموارد من أجل الوقوف على قدمَيْها.
لا يمكن القضاء على الفكر المتطرف، فالفكرُ لا يُجابَه إلا بالفكر والتطرف فكر منحرف لن يهزم إلا أمام فكر التنمية الحقيقية لا الشعاراتية |
ولا يمكن القضاء على الفكر المتطرف بالبنادق والطائرات، بل يتم القضاء عليه بإزالة أسبابه (الفقر ، والجهل والمرض)، فالفكرُ لا يُجابَه إلا بالفكر، والتطرفُ فكرٌ منحرف لن يُهزَم إلا أمام فكر التنمية الحقيقية لا الشعاراتية، أمَّا معالجة أعراض المرض ونسيان أصل المرض فهو مضيعة للوقت وتبذير للموارد الوطنية.
وينبغي الانتباه إلى أن سيناء ذات بُنية عشائرية، ولا بد من احترام هذه البنية الاجتماعية، وإشراكها في منظومة المواطنة. ولا ننسى أن سكان سيناء هم مواطنون مصريون ولم يتم استيرادهم من الخارج ولم يأتوا من كوكب آخر. وبالتالي فإن الحكومة المصرية تتحمل مسؤولية حمايتهم، وتوفير الحياة الكريمة لهم، ودمجهم بشكل كامل في النسيج الشعبي، وعدم تصنيفهم كمواطنين درجة ثانية.
أمَّا اعتماد الحل الأمني فلا فائدة منه، وهو -في واقع الأمر- مشكلة وليس حلاً، لأنه يُدمِّر الاقتصاد بالكامل، فرؤوس الأموال تهرب من أماكن النزاعات والمناطق غير المستقرة، كما أنه يقضي على السياحة التي تُعتبر من أبرز الموارد المالية لمصر، وهو تشويه لصورة مصر في الداخل والخارج.
ففي الداخل، يَنظر الكثيرون إلى أن الجيش يَقتل أبناء جِلدته، وفي الخارج، يتم تصوير مصر كدولة فاشلة غير مستقرة. فعلى قادة مصر أن يتعلموا من أخطاء الآخرين، وألا يحاولوا إعادة اختراع العجلة، والعاقلُ من اتعظ بغيره.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.