شعار قسم مدونات

الدكتاتورية على أشكالها تقع

blogs - roma
 
يقف أوكتفيان كعادته يتأمل خريطة إمبراطوريته بعد كل أرض يضمها لإمبراطوريته، كأنه يرى لوحة فنيه تكتمل بكل انتصار جديد له، والآن وبعد أن انتهى من غريمه ماركوس أنطونيوس وزوجته الملكة كليوباترا، وأصبحت الإمبراطورية المصرية العظيمة تحت إمرته.

"الآن لا يبقى أحد ليقف أمام مملكتي، لقد ولدت لأكون عظيما، وسيبقى اسم أوكتفيان أغسطس عظيمًا إلى الفناء!" الفناء.. لا ينغص على مجدي سوى تلك الكلمة، لقد خُلقنا بشرًا عاقلين، لست أعلم إن كانت نعمة أم نقمة، قد يكون نحن فقط من يدركون هذا الأمر على ظهر هذا الكوكب، فحياتنا ما هي إلا طريق دائري، يفصلها الموت في المنتصف.

التاريخ لم يُكتب من أجل الاستماع لقصصه، بل هو شهادة على عصر ما، حتى نتمكن من استحضار أحسنه وتجنب أسوئه

إن كان لابد من الفناء إذن فلن يخلو من العظمة، كان يظن اسم عائلة أغسطس سيخلّد دائمًا وإلى الأبد، هناك في تلك الرقعة التي تتوسط روما سيبني ضريحا عظيما يليق بأسرة إمبراطور الرومان، قد يكون تأثرًا بالحضارة المصرية وبطقوس الموت لفراعينها، وقد يكون رغبة في العظمة والاختلاف حتى بعد أن يتحلل جسده.

الأغوستيوم ذلك المبنى المستدير الضخم، خليط من الفن والهيبة، فعندما بناه أغسطس كان على يقين من أن ضريحه سيكون قبلة لروما، وكأنه ضمن بقاء إمبراطوريته ما بقيت الحياة، وما كان ليؤمن بغير ذلك، حتى وإن كان شعب روما كله فلاسفة.

أتت على روما عصور، خيّم على العقول ظلام دامس، فذهبت أدراج الرياح إمبراطورية أغسطس، وفرغت شوارعها من سكانها بعد أن اجتاحها البربر، ودمروا كل ما وقع تحت أيديهم، حتى الطرق لم تسلم منهم ولم يكن ليسلم الأغوستيوم بطبيعة الحال.

بقي ذلك البناء محطما قرونا طويلة منسيًا، لم يبقى منه سوى ما يمكن للباحثين أن يستدلوا به عليه، مر هذا البناء العظيم بأطوار كثيرة، قلعة في يوم لإحدى العائلات الكبيرة وفي يوم آخر كرم عنب، ثم حلبة لمصارعة الثيران… إلخ.

ظل هكذا حتى أتى بينيتوأندريا موسوليني رئيس إيطاليا في وقت الحرب العالمية الثانية ومؤسس الحركة الفاشية، فاختار الأغوستيوم ليكون ضريحه هو الآخر، ويُحيي مرة أخرى حلم أغسطس، فأعاده إلى ما كان عليه.

يبقى الحق والعدل دائمًا حتى وإن هُزما، ويفنى الدكتاتوريون بطغيانهم وطموحاتهم حتى وإن انتصروا

المراد من تلك السطور، ليس الاستماع إلى لمحة من تاريخ الدكتاتوريين، بل إلى التأمل في النتائج والاستفادة منها، فالتاريخ لم يُكتب من أجل الاستماع لقصصه، بل هو شهادة على عصر ما، حتى نتمكن من استحضار أحسنه وتجنب أسوئه.

دائمًا ما تتشابه الأحداث على مر التاريخ، أغسطس وموسوليني إمبراطور ديكتاتور وحاكم فاشي، تفصل بينهما قرون كثيرة واشتركوا في حلم واحد ونهاية واحدة. الأول سرقت رفاته ودمرت إمبراطوريته، والثاني أعدم بالرصاص بعد أن علق بقدميه ودمرت بلاده الحرب.

إن كانت الطيور على أشكالها دائمًا ما تقع، فالدكتاتوريون هم أيضًا بظلمهم يسقطون ويبقى الحق والعدل دائمًا حتى وإن هُزما، ويفنون هم بطغيانهم وطموحاتهم حتى وإن انتصروا.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان