كتبت منذ فترة تدوينة بعنوان "أردوغان زعيم يفهم شعبه"، واليوم أستطيع أن أقول "الشعب التركي يفهم زعيمه". هذه اللوحة الجميلة التي رسمها الأتراك مع زعيمهم أردوغان تُثير إعجاب المحبين، واستغراب الكارهين، وحقد الأعداء.
أقول إن ما نراه اليوم في تركيا من لوحة مشرفة ونصر حقيقي في الصراع بين الحرية والاستعباد، وبين الأنظمة العميقة الحاكمة في المنطقة والإرادة السياسية القوية التي يحميها الشعب، هذه اللوحة ليست نتاج سنة أو سنتين بل هي تاريخ حديث بدأ العمل فيه منذ ٤٥ عاما.
تركيا واجهت فترة طويلة من القمع حُوربت فيها قيم وثقافة قطاع كبير من الشعب التركي |
علاقة أردوغان بشعبه
عاشت تركيا سنوات الانغلاق على نفسها طوال أكثر من 60 عامًا بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية ومكث الشعب التركي في براثن التأثر الغربي المقيت، فعاشت التطور الغربي في الفن والانحلال وغيرهما دون أي تنمية حقيقة في مصلحة الشعب والمواطن العادي، حيث عاصر الأتراك أكثر من انقلاب عسكري، كما واجهت تركيا فترة طويلة من القمع حُوربت فيها قيم وثقافة قطاع كبير من الشعب التركي.
فقد كان هناك اقتصاد ضعيف ومستوى متدن في المعيشة والدخل العام! ووضع دولي وإقليمي سيئ! علاقتها بالدول الإسلامية ضعيفة! الروابط مع الشعوب الأخرى شبه منقطعة! مما أدى إلى وجود فجوة كبيرة بين الشعب التركي والحكومات حتى أوائل التسعينيات.
لماذا ذكرت كل هذا؟ للوصول لنقطة هامة نفتقدها نحن في منطقتنا وهي ثقة الشعب في الحاكم وفهم الحاكم لشعبه.
هذه العلاقة التي استغربها الجميع تظهر لنا شيئين تفتقدهما منطقتنا. الأول هو إدراك الشعب التركي للحظة التي يمكنه أن يفتقد فيها حريته وهو شعب عانت أجياله المختلفة انقلابات عسكرية كثيرة كانت منها الدموية وكان منها الانقلاب السياسي المستبد. الشيء الثاني هو ثقة الشعب في أردوغان وإدراكه أنه بهم أقوى. تلك العلاقة التي لا نجدها في شعوب وحكام المنطقة إلا في تركيا.
التجربة التركية بقيادة أردوغان لها ما لها وعليها ما عليها، لكن الدرس الذي نأخذه من هذه التجربة هو كيف يستطيع حاكم أن يفهم شعبه؟ ويفعل كل شيء مستهدفًا رضا شعبه، حتى في طريقة إلقاء ونوعية ومحتوى خطاباته التي تجعل شعبه يستمر في دعمه في استحقاقات انتخابية مستمرة لمدة 13 عامًا.
الشعب التركي في طبعه شعب يحب الزعماء ويقتدي بهم ويقدس الزعيم القوي، كان رؤساء تركيا قبل أردوغان يقفون أمام رؤساء أمريكا أو أوربا مطأطئي الرؤوس، وكانوا في الاجتماعات الدولية في الصفوف الخلفية دائمًا، ومثال ذلك مشهد معروف لرئيس وزراء تركيا السابق أجاويد وهو يقف أمام الرئيس الأمريكي كلينتون مكتوف الأيدي وناظرًا للأسفل أمامه.
لعب أردوغان وحزبه على أكبر متطلب للشعوب وهو الاستقرار واستمرار الحياة، حتى إنه جعل "الاستقرار" شعارا لحملاته الانتخابية |
خطاب أردوغان دائمًا ما يكون قويا مليئا بتفاصيل يهتم بها المواطن في حياته اليومية، يقسو فيه على المعارضة العلمانية والقومية، يتطرق دائمًا إلى تاريخ تلك الأحزاب التي لم تسهم في تطور تركيا وليس لديها اهتمام بمطالب المواطنين.
وللعلم فإنه رغم ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة موارد الدخل فإن المواطن يشعر بصعوبة الحياة والغلاء، لكن تسارع الحياة وحركتها يجعلان الناس متجاوبين ومتأقلمين مع الوضع وهذا يرجع لأمرين: أولهما ثقة الشعب في أردوغان، ثانيًا استقرار الدولة لفترة زمنية طويلة دون اضطرابات تؤرق راحة الشعب عكس الفترات السابقة التي كان يتخللها انقلابات واضطراب اقتصادي وسياسي.
لعب أردوغان وحزبه على أكبر متطلب للشعوب وهو الاستقرار واستمرار الحياة، حتى إنه جعل "الاستقرار" شعارًا لحملاته الانتخابية، فالاستقرار مع نجاحات اقتصادية وسياسية على الواقع جعل الشعب التركي يبصم لأردوغان بالعشرة كما يقولون.
قوة الإرادة السياسية في السلطة وقوة الإرادة الشعبية في الشارع
هذه المعادلة ترتبط بما ذكرته في الأعلى. نعم، الشعب التركي هو من نزل في الشارع وضحى ومنع الدبابات في الشوارع من التحرك والوصول إلى أهدافها إلا أن الحجر الثقيل الذي قلب المعادلة وأعاد توازنها هو وجود الإرادة السياسية القوية التي استطاعت أن تحمي سقوط النظام بشكل حقيقي.
سيطرة أردوغان على الدولة إن صح التعبير ووقوف مؤسسات الدولة بجانبه العسكرية منها والمدنية هو الذي أحدث التوازن وأدى إلى إسقاط الانقلاب وإفشاله. هذا التوازن في المعادلة بدأ فيه قبل أردوغان مندريس وأربكان وأوزال. وأكمله أردوغان بجهده خلال الخمس عشرة سنة الماضية.
دور الإعلام تحدث عنه الكثير لكن الفارقة التاريخية هي أن الإعلام التركي المعارض وقف بجانب أردوغان وهذا الموقف سيكتبه التاريخ وأستطيع أن أقول إنه حدث شاذ في السياسة التركية ومن يعرف تركيا يدرك ذلك جيدا.
ما بعد المحاولة الانقلابية.. تحديات ودروس
الأهم من النصر هو الحفاظ على النصر وحمايته. التجربة المصرية المريرة جعلت منا أُناسا لا نثق في أي نصر. قلت لأصدقائي الأتراك عليكم أن تتوجسوا دائما أن هذا النصر غير حقيقي حتى تتمكنوا من حمايته والحفاظ عليه.
المحاولة الانقلابية الفاشلة لم تمكن ظهيرها السياسي ولا ظهيرها الإعلامي ولا ظهيرها في كل المجالات من الخروج في العلن، بل من الممكن أن يكون الذي خطط للانقلاب يحتفل بفشله مع الشعب في الشوارع.
تركيا وتجربتها الفريدة أثبتتا أنه يمكن لهذه المنطقة المظلمة أن تُنير يومًا ما |
النصر لم يكتمل بعد والمشوار طويل، نجاح تركيا هو نجاح لشعوب المنطقة كلها، تلك المنطقة التي تقبع تحت الاستبداد والظلم. تركيا وشعبها وزعيمها هي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تكمل لفترة طويلة وتحقق هذه النجاحات بما لها وما عليها.
كتب أحد الأصدقاء في توارد عجيب للأفكار: الوقوف بجانب الأتراك وحماية ديمقراطيتهم ومشروعهم واجب على كل دعاة التغيير في المنطقة. تركيا حتى الآن هي التجربة الديمقراطية الشرق أوسطية الوحيدة التي تحاول النجاح بعيدًا عن العباءة الدولية، تركيا وبعيدًا عن أي شيء هي الأمل والحصن الأخير لكل من يسعى لنهضة بلده في المنطقة.
وبعيدًا عن أي اعتبارات، فانهيار التجربة المصرية وتحييد التجربة التونسية يعدان من أهم أسباب الوقوف بجانب الأتراك في هذه الفترة الحرجة، سقوط تركيا يعني التأكيد للمرة الألف أن هذه المنطقة لن تنعم بأي نهضة، وسيحول ذلك دون أي تغيير نسعى لإحداثه في بلادنا.
تركيا وتجربتها الفريدة أثبتتا أنه يمكن لهذه المنطقة المظلمة أن تُنير يومًا ما، وأنه ليس من المستحيل نهضة البلاد ووضعها في مصاف الدول المتقدمة، طالما توافرت الأسباب لذلك. فجُل المواقف التركية الأخلاقية، لا تدفعنا إلا للانحياز لهذا الشعب والوقوف إلى جانبه، مهما كانت الضريبة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.