"أنا مريّح راسي ولا أتابع الأخبار".. "أنا أكره الأخبار، فهي تشعرني بالكآبة".. "أفضل حلّ لمشاكل العالم هو أن لا نعرف ما يجري فيه"..
تسمعها حتماً في اللقاءات الاجتماعية مع الأصدقاء أو العائلة، وفي بعض الحالات تجد معتنقي هذا التوجّه أكثرية، وفي البعض الآخر أقلية. لكنّهم حتماً هناك، يريدون بكلّ وجدانهم أن يؤمنوا بأن العالم يعيش بسلام. وكي يحافظوا على إيمانهم هذا، يبتعدون عن كلّ ما قد يشوّه لهم هذه الصورة.
أتحدّث هنا عن الفظائع التي نغمض أعيننا عنها وننكرها وهي صنع أيدينا لا صنع قراراتٍ أممية |
تجدهم يحاربونك أنت لأنّك تنشر الخبر، ولا يحاربون الخبر نفسه أو الفاعل الذي يقترف هذه الفظائع. يجدون طمأنينتهم لدى بعض المتفائلين الذين يطالعوننا بأن العالم لا يزداد سوءاً، لكنّنا فقط نعرف أكثر عن الفظائع التي تحدث على هذه الأرض.
قد أكون متشائمة، لكنّ هذا التبرير لا يطمئنني أبداً.. فهو ببساطة يعني أنّك يمكنك أن تغلق هاتفك وتلفازك كي تكذب على نفسك وتقنعها بأن العالم بألف خير. المشكلة في هذه الكذبة أنّك قد تعيش بسلامٍ مع نفسك ومحيطك إلى أن يطرق العالم بابك، حينها ستُفاجأ، كما نتفاجأ الآن بكلّ ما يجري حولنا.. وماذا ستفعل حينها؟
سيجيب كثيرون عن هذا السؤال بالخنوع: "وما الذي يمكننا فعله أصلاً؟". لأنّهم يفكّرون بلعبة الأمم والقرارات الدولية، وعندما تحدّثهم عن فظائع العالم يفكّرون بالطائرات من دون طيار والبراميل المتفجّرة تقتل مدنيين عزّلا بحجة مكافحة الإرهاب.
لكنّني لا أتحدّث عن ذلك! فللعبة الأمم حديثٌ آخر يطول..
أتحدّث عن الفظائع التي نغمض أعيننا عنها وننكرها وهي صنع أيدينا لا صنع قراراتٍ أممية..
أتحدّث عن زوجٍ ضرب زوجته حتّى الموت، عن طفلٍ رُمي في الشارع وتم بيعه وشراؤه في سوق الاتجار بالبشر. أتحدّث عن أخٍ سرق مال أولاد أخيه اليتامى. عن جارٍ قتل جاره.
أتحدّث عن مجتمعٍ يتمسّك بقول "للبيوت أسرارها" ويمرّ أمام بابٍ يسمع من خلفه استنجاد طفلةٍ فيصمّ أذنيه، ثم يترحّم على روحها في اليوم الثاني، ويكمل طريقه وكأنّه لم يكن بإمكانه أن يقف قبل ساعاتٍ وينقذها.
أتحدث عن مجتمعٍ بات يُشفق على الصالح فيه ويأسف لحاله قائلاً "مسكين قلبه طيب" |
عن مجتمعٍ يتمسّك بمثلٍ شعبي يقول "من الحيط للحيط، يا ربّي السترة"، فيغضّ بصره عن قوي يستضعف كلّ من حوله ويأكل حقوقهم.
عن مجتمعٍ يرفع لواء "إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"، فإما تكون ذئباً، أو مصفّقاً للذئاب خوفاً من أن تأكله. وستأكله حتماً يوماً ما.
عن مجتمعٍ بات يُشفق على الصالح فيه ويأسف لحاله قائلاً "مسكين قلبه طيب".
أن لا تعرف هو طبعاً الحلّ الأسهل. أن تغمض عينيك هو طبعاً الحل الأسهل.
وعندما تعرف، ستردّد: "ماذا كان يمكننا أن نفعل؟"، "لم نكن نتخيّل يوماً أن يقوم بعملٍ مماثل!"، "كان يبدو رجلاً لطيفاً"، "الله أعلم لكن ربما كانت لديه أسباب وجيهة".
تحاول أن تخدّر شعورك بالذنب إمّا بحبّة استسلامٍ لعجزك، أو بحبّة إنكار، أو بحبّة تبريراتٍ للمجرم.
لكنّ ضميرك يعرف.. حتّى وإن اخترت العكس..
فهل تعرف؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.