الذاكرة كالكلاب التي تنهش -تقول رضوى عاشور في الطنطورية- وهي كأشباح الموتى تطارد الأحياء بحثًا عن العدالة غير المتحققة في موروثنا الشعبي.. الذاكرة هي محط الكثير من تساؤلاتنا في الزمن الذي نعيشه، هل ننسى أم نتذكر؟، هل نتلبّس الماضي أم نتخطاه حتى نتمكن من أن نعيش ما تبقى من حياة لا نعرف متى تنتهي؟، هل في النسيان خيانة وفي الذكرى وفاء؟، أم أن الأمر معقد ليس بهذه البساطة والمباشرة؟.
يقول ثيودور أُدورنو الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني: إن أولئك الذين يمتلكون رفاهية المطالبة "بالنسيان والمسامحة" هم غالبًا المتسببون في الضرر، فليس من المعقول أن تُطلب ممن ما زال يعاني.
لماذا لا ننسى؟ لأن النسيان خيانة!.. ولكن الذاكرة تقتل أحيانًا |
أن ينسى واقعاً يعيشه، نحن لا ننسى ولكننا نتعايش، ونتبلد، ويتحول جزء من أرواحنا إلى ثقوب سوداء تبتلع كل ما له علاقة بالأذى إلى زاوية مظلمة لا نستحضرها. ما الضرر في ذلك؟ المشكلة هي أننا عندما نصاب بالعمى عن الماضي فإن احتمالية تكراره تصبح وشيكة أكثر من أي وقت.
كثيراً ما تحدثت عن الذكريات التي لا أستطيع تجاوزها، "خناجر في ذاكرتي" لا يمكنني أن أنساها ولا حتى أن أتناساها لأنها أكثر حضوراً من كل أشكال الحياة الأخرى، فالموت له سلطة لا يمكننا إنكارها.
أذكر كل المآسي التي قرأنا عنها في كتب التاريخ، وربما بعض الروايات، عن أزمنة الانحطاط والاضمحلال، عن حروب الطوائف، عن الذين كانوا يُقتلون حتى يستمتع آخرون، فقط.. حتى يستمتعوا بنشوة إراقة الدماء لا غير.. لا لم يكونوا بحاجة لأفعال ردع وحشية غالب الوقت ليصلوا إلى غاياتهم كما يشرح لنا المؤرخون ومحللوا السياسة.. أذكر أنني كنت كلما شاهدت نشرة الأخبار وأنا في سنّ أصغر من هذه، ولم أكن بعد قد خبرت كم الفظاعات التي يقدم عليها مجموعنا البشري كل يوم.. أذكر أنني كنت أتساءل في داخلي كثيراً وأنا أنظر إلى السماء: أين الله؟ أين أنت؟ لماذا لا تفعل شيئاً؟ كيف تتركهم يفعلون كل ذلك ولا تأخذهم كما تقول، وأنت قادر مستطيع؟
تجاوز تفكيري تلك الأسئلة المسطحة البسيطة، وأدركت شيئاً فشيئاً أن للكون قوانين ونواميس، وأن المعجزات لا تحصل كلّ يوم، فهمت أو ربما تفهمت لماذا يُلحد كثيرون من كل مكان في العالم استنكاراً لما يجري، فهم مثلي يسألون أين هو الإله الذي خلق كل هؤلاء مما يحصل؟ وللأسف كل ما يحصلون عليه هو إجابات ساذجة لا تُغني ولا تسمن من جوع مصدرها أصحاب القرائح الجرداء والعقول القاحلة.. اذكُر الله ودعْ عنك وساوس الشيطان.. وكما الذاكرة تأتيك الوساوس في كل مرة لتلح عليك حتى تقرر في يوم لم تطلع له شمس أن تجلس معها حتى تتوصلا إلى اتفاق.. تتحاوران في لحظة تتوقف فيها كل الأشياء، تسأل كل الأسئلة، وتخلع عن نفسك كل أثواب الحذر والترقب، تنسل منك رهبة الاستنكار، وتتوجه إلى تلك القوة الغامرة.. تفتح نفسك لتستقبل كل ما يمكن من نور، تغلق الباب وتمضي.
لماذا لا ننسى؟ لأن النسيان خيانة!.. ولكن الذاكرة تقتل أحيانًا.
في وقت من الأوقات قررت أن الحياة لا يمكن أن تمضي في جحيم الذاكرة، لا لن ننسى.. كفلسطيني ترضع مع الحليب أن النسيان هو الفناء.. كلّا لن أنسى ولكنني سأعيش.. هل تعرف يا من تقرأ تلك الموسيقى التي تقبع في خلفية مشهد ما في أحد أفلامك المفضلة، وما أن تستمع إليها حتى تستدعي في ذهنك كل تفاصيل المشهد؟ نعم هكذا قررت أن تكون الحياة.. نحن نعيش وتلك الذاكرة في خلفية الحياة دائمة لا تتوقف، لا تنقطع، لا أحد يغلق ذلك الشريط، ولا أحد يخفض الصوت.. لا أحد يستطيع.. لأنني قررت أنني لا أريد أن أنسى.. فالنسيان يعني الموت.. فقط أريد أن أعيش.. أن أعيش بالقدر الكافي كي أتمكن من فعل شيء ذي قيمة.. فأنا كما ترى لست حجراً ولا آلة حتى أستطيع بعد تلقي الضربة تلو الأخرى أن أقوم لأتابع العمل كأن شيئاً لم يكن.. عليّ أن أجلس قليلاً في مكاني لأستوعب ما أصابني ثم أقرر كيف أتجاوز الألم وأمضي.
هي الذاكرة.. تصنعنا ونصنعها ولا نعرف متى تتوقف عن اغتيال لحظاتنا، ومتى تولّد لنا غيرها.. |
يتحدثون كثيراً عن الذاكرة الصناعية (prosthetic memory) الآن، نعم توقعك في محله، نسبة إلى الأطراف الصناعية، كيف تتذكر أمورًا أنت لم تكن جزءاً منها، ولكنها تحمل في نفسك كل مشاعر الحزن والأسى وأحياناً الألم وكأنك كنت هناك بل ربما أكثر. ذاكرة كهذه هي التي أوجدت جيلاً يعرف ما هي مأساة الشيشان، وما هي مذابح البوسنة، وكيف كانت فظائع الحرب الطائفية في لبنان.. هي نفسها التي تجعلني أعرف النكبة وقد ولدت بعدها بأربعين عاماً.. وأبكي لبغداد التي سقطت على يد المغول وقد بُنيت فوقها مئة بغداد أخرى.. وأعيش إحساس اليتم العظيم في كل مرة أقرأ فيها "ما محمدٌ إلا نبي" والأنبياء يموتون.
هي الذاكرة.. تصنعنا ونصنعها ولا نعرف متى تتوقف عن اغتيال لحظاتنا، ومتى تولّد لنا غيرها..
قرأت قبل قليل نتائج دراسة تقول بأن في عقولنا "زر إطفاء"، الفكرة تقضي باختصار أننا حتى نتمكن من تخزين معلومة ما بشكل عميق فإن الدماغ يحتاج أن ينام قليلاً، وخلال النوم يتخلّص من الذكريات التي باتت مستهلكة وملقاة في زوايا الذاكرة ليفسح مجالاً للجديد. لذلك فإن كنت تريد أن تتذكر شيئاً أو أن تكتسب مهارة عليك أن تفعل شيئين: أن تنام جيداً، وأن تفكر فيها طوال الوقت. أتساءل وماذا عن كل تلك الذكريات التي تجتاحنا دون إذن منا ودون أن نستجلبها، لا نقرر أن نفكر فيها ولا نختار أن نصبح ماهرين في استحضار آلامها؟ لماذا لا تنطبق عليها هذه المعادلة البسيطة؟ ماذا عن مرضى القلب الذين وجدوا أنفسهم يتذكرون أجزاء من حياة أناس لا يعرفونهم، المشترك الوحيد بينهم هو القلب المزروع الذي نُقل إليهم كرماً من أولئك الغرباء؟ كيف حملت القلوب تلك الذكريات إلى عقول الآخرين؟
لا نعرف إجابات تلك الأسئلة، ولعلنا لن نجدها.. لكننا نعرف أننا بالذاكرة نكون، وبالذاكرة نصير، وبالذاكرة نعيش.. ولكن الذاكرة تقتل أحياناً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.