شعار قسم مدونات

تركيا.. فشل الانقلاب فهل تنتصر الديمقراطية؟

blogs - uu
لم تعد توجد أمام رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية التركية الكثير من الخيارات بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة. صحيح أنه خرج منتصرا منها لكنه انتصار بطعم الخسارة التي مني بها النموذج الديمقراطي التركي الذي كان أردوغان هو مؤسسه وعنوانه.

حتى الآن الأكيد هو أن الانقلاب فشل لكن الديمقراطية مازالت لم تنتصر، بالفعل لقد تم إنقاذها والمعركة الآن هي معركة حماية حقوق الإنسان التي بدونها تبقى الديمقراطية بلا طعم ولا رائحة. وأردوغان الذي خرج منتصرا بات منهكا وضعيفا ومن هنا الخوف من انتقامه من أعدائه ليس فقط داخل الدولة العميقة أو "الكيان الموازي" كما يسميه الأتراك، وإنما من خصومه السياسيين الذين انتصروا للديمقراطية في لحظة فارقة عندما حدثت عملية الانقلاب الفاشلة.

تركيا أمام خيارين صعبين: "العودة إلى الأصولية العلمانية"، أو الخضوع لأصولية جديدة هي "الأصولية الدينية"

الآن يجد أردوغان نفسه وبلاده أمام مفترق طرق حاسم، إما أن يختار أن يكون موحدا ليعيد ترميم التجربة الديمقراطية التي بدأت تتآكل حتى قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة، أو أن تؤدي عملية "التطهير" الواسعة التي تشنها السلطات التركية إلى إحداث اصطفاف وانشقاق داخل المجتمع التركي، يحول أردوغان إلى مفرق بعدما كان موحدا، ويعود ببلاده القهقري إلى تاريخها الاستبدادي الذي لم يودعه الشعب التركي إلا قبل سنوات قليلة.

فتركيا الحديثة، ورغم تجربة "حزب العدالة والتنمية" التي حاولت أن تصالح بين العلمانية والديمقراطية، مازالت لم تٌفطم بعد مع تاريخها الاستبدادي الذي رعته ونظرت له "أصولية علمانية"، في سياق تاريخي وثقافي معقد تحول فيه الجيش إلى حارس للعلمانية ومناهض للديمقراطية.

وخلال فترة حكم "العدالة والتنمية" بدا وكأن تركيا أصبحت قادرة على المصالحة بين "العلمانية" و"الديمقراطية"، لكن اليوم يبدو أن المحاولة الانقلابية الفاشلة أعادت أكبر بلد سني بالشرق الأوسط إلى المربع الأول، ووضعته أمام خيارين صعبين: "العودة إلى الأصولية العلمانية"، أو الخضوع لأصولية جديدة هي "الأصولية الدينية" التي يخيف شبحها كثيرين عبر العالم في منطقة تشهد مخاضا تاريخيا يصعب التنبؤ بما ستئول إليه الأمور في أغلب بلدانه. وما بين هذين الخيارين يوجد خيار ثالث هو خيار الديمقراطية.

ما يزكي المخاوف التي يبديها الكثيرون من التحول نحو "أصولية دينية" مستبدة، هو أن يستغل أردوغان المحاولة الانقلابية الفاشلة ليتحول إلى مستبد، وهذه ليست مجرد دعاية يروجها مناصرو الانقلاب وأعداء التجربة الديمقراطية التركية والنجاح الاقتصادي التركي في عهد حزب "العدالة والتنمية".

فحتى قبل المحاولة الانقلابية برزت عدة مؤشرات كانت تغذي مثل هذه المخاوف جراء تنامي الانتهاكات ضد حقوق الإنسان وحرية الصحافة وحرية التعبير عموما في تركيا خلال السنوات الأخيرة، وتحذر من تحول نظامها الإسلامي إلى نظام قمعي استبدادي، وتنتقد تطلعات رئيسها إلى إعادة بناء مجد الإمبراطورية العثمانية وتنصيب نفسه سلطانا أسكره جنون العظمة.

لقد سبق أن جرب أردوغان تجربة قمع معارضيه بعد المحاولة الانقلابية في عام 2008، وانتهت تلك التجربة بالزج بالمئات في السجون وأساءت إلى أردوغان وإلى حزبه وإلى التجربة التركية.

والآن مع هذه المحالة الانقلابية الفعلية الفاشلة يتوقع أن يكون القمع مضاعفا، وهو قمع يعتبره أنصار أردوغان "مشروعا" عندما يمارس بأدوات شرعية وفي إطار احترام القانون، لكنه في نفس الوقت "خبر سيئ" للديمقراطية في تركيا وأكثر من ذلك يسئ أكثر مما يفيد التجربة الديمقراطية التركية الفتية، وسيكون وبالا على المنطقة العربية المترنحة ما بين رياح ربيعها الذي تحول إلى خريف في أكثر من دولة وتطلعات شعوبها المشرئبة إلى نموذج يلهمها الإرادة والأمل في المستقبل.

المؤكد هو أن نجاح المحاولة الانقلابية الفاشلة، كان سيجعل تركيا أقل حرية وأقل ديمقراطية، وبالتأكيد كان سيعيد تاريخ حكم العسكر لتركيا بكل مآسيه وسيشجع الأنظمة الانقلابية والاستبدادية والثورات المضادة في المنطقة العربية.

كل تحول نحو التفرد بالسلطة حتى لو تم عبر صناديق الاقتراع سيحول النموذج التركي إلى نوع هجين من الأنظمة تذكرنا بـ"الدكتاتوريات المنتخبة"

اليوم أمام أردوغان خياران لا ثالث لهما إما المضي في النهج الذي اتبعه في الفترة الأخيرة وهو نهج معادي للديمقراطية، والمستفيد الوحيد منه سيكون هم الانقلابيين وأنصارهم لأنهم سيجدون ما يبررون به محاولتهم وربما يسعون إلى تكرارها. وإما أن يختار الطريق الصعب وهو طريق الديمقراطية التي تتطلب تنازلات وتُبنى على التوافقات في إطار من الحرية والإقرار بالحقوق التي يضمنها ويحميها القانون.

فأردوغان يُعتبر، بدون منازع، أول قائد للتجربة الديمقراطية التركية الفتية، وتحول إلى أكبر خطر على هذه الديمقراطية عندما قادها إلى حافة الهاوية قبيل محاولة الانقلاب الفاشلة، وجاءت هذه المحاولة لتسقطها في قعر الهاوية، ومهمته اليوم أصعب من مهمة "سيزيف" الذي عليه أن يحمل صخرته ويصعد بها من جديد ليخرج بلاده من القعر الذي أوقعها فيه.

أليس أردوغان نفسه هو من قال عام 2002، في حملته الانتخابية قبل وصوله إلى السلطة إن "الديموقراطية وسيلة وليست هدفا"، وشبهها بـ "قطار الأنفاق"، الذي يمكن لراكبه أن ينزل منه عند المحطة التي يختارها! أنصار التجربة الديمقراطية التركية يتمنون اليوم أن لا يكون أردغان قد قرر فعلا النزول من القطار، لأن تركيا العثمانية التي كانت توصف بـ "الرجل المريض"، إذا إِعْتَلَتْ فإن الحمى ستسري في جسد المنطقة العربية كلها من الخليج إلى المحيط.

لقد بدأ أردوغان إصلاحيا وهذا ما شجعه وساعده على النجاح، وكل تحول نحو التسلط والاستفراد بالسلطة حتى لو تم عبر صناديق الاقتراع سيحول النموذج التركي إلى نوع هجين من الأنظمة تذكرنا بـ "الدكتاتوريات المنتخبة"، ويسجعل من أردوغان مستبدا ممقوتا في بلاده ومنبوذا في العالم، ولا أعتقد أن الرجل يتمنى لنفسه خاتمة كئيبة مثل هذه.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان