شعار قسم مدونات

الملحمة (١): حلب.. حين يكسر "الفتح"

blogs - syria
 
ربما لم يحصل في أي حرب في التاريخ أن استطاعت ثلة آلاف، لا تملك سلاحا إلا الإيمان، ومحاصرة جوا بقوتين جويتين -إحداها لقوة عالمية كبرى- وبرا بجيش نظامي، أو ما تبقى منه، وآلاف المرتزقة المنظمين في حزب منتسب زورا لله، وعشرات المليشيات الشيعية التي أتت تدافع عن أضرحة عسكرية فحفرت أضرحتها؛ بتواطؤ ودعم عالمي لإفناء هذه الثلة.. لم يحدث أن استطاع هؤلاء المحاصَرون (بالفتح) كسر الحصار، وكسر المجاز والحقيقة واللغة، ليصيروا محاصِرين.

كانوا يملكون عيونا مفتوحة للماوراء، إعلاميي جبهات، ينظرون في عين الموت لا في عين الحياة

حين نقرأ هذا في كتب التاريخ عن الملحمة التي فاقت ستالنغراد -التي كانت حربا لجيشين نظاميين بطائرات ودبابات- وثأرت لغروزني التي أطبقت عليها الكماشة، وتعلمت من غزة، صنوها وصنو داريا والغوطة وحمص القديمة، صمودها وطورته، فاستحال الإمداد امتدادا، والخندق أفقا، وكان جنود اليامازاكي البريون البررة انغماسيين واستشهاديين، فقد نهز رؤوسنا ببرود إعجابا باستثناء عام في تاريخ عادي؛ إلا أننا نكتب بعجز كلماتنا ما رأيناه وشهدناه على انتصار الاستثنائيين في زمن ساقط.

لم يكن لدى "جيش الفتح" طائرات ألمانية تمهد لكسر الطوق السوفياتي قرب ستالنغراد، لكن كان لديه ثلاثة استشهاديين وعشرات الانغماسيين حمل كل منهم مئة ألف محاصر فحرروهم؛ ويحتمون من الطائرات بأيدي أطفالهم اللاعبين الذين يدورون الزمان مع العجلات المحترقة، ويسوّدون أيديهم ووجوهم كي لا يقال: كانت حلب سوداء في يومنا.
 

لم يكن لديهم طائرات وفرق استطلاع ترصد لهم سهول الراموسة المفتوحة، وتلالها العصيبة، لكنهم كانوا يملكون عيونا مفتوحة للماوراء، إعلاميي جبهات، ينظرون في عين الموت لا في عين الحياة (صغارا لكنهم يسمون بكناهم، كإبراهيم أبي البراء العشريني، عرضت أعمارهم قبل أن تطول، وقدموا في حيواتهم القصيرة مجموع ما يقدمه عشراتنا) ويخلدون ذكرى قادتهم الاستثنائيين، مع "فتح حلب"، الحاملين عبء كلماتهم والواقفين دونها والشاهدين/المشهودين عليها ولأجلها، رجالا لله يكملون الدرب، مؤمنين ومؤمنا بهم وعليهم، عتادهم الأرض التي يحفرونا بها خنادقهم فتضمها وتنفتح قبورا للمحتلين، والسماء التي يحميهم بها تمهيد الهاون من الروسي "الذي يدرز الأرض درزا"، والتاريخ الممتد في حلب، من الأزل للأبد.

فتح حلب لا ينكسر، لكنه يكسر الحصار، ويكسر القاعدة، ويكسر الطاغي والباغي، ضوءا كاسرا يمر من ثغرة الجغرافيا لتمر فاكهة إدلب، ومن ثغرة التاريخ ليمر النور للأجيال، ولو مرة!

حوصر ٣٠٠ ألف مدني شمال شرق حلب، فشقوا طريق النور من الأقصى الآخر، من جنوب الغرب، وانتزعوا مكانهم في الوجود انتزاعا، رغما وكرها، بعد أن ساروا نحو الموت رغبا وطوعا، وغنوا قدود حلب بضرب الرصاص وتمهيد الهاون، وساروا درب حلب إلى ما بعد آخره، إلى مبتداه من منتهاه، فصار الزمان مكانا سائلا، حقا وفعلا لا تصوفا ومجازا كما يقول ابن عربي، حين عاد تاريخ المدينة التي لم تعرف الطغاة، واستحال جغرافيا أطبقت الحصار على المحاصر.

لا فتح إلا للفتح، لجيش الفتح، وفتح حلب لا ينكسر، لكنه يكسر الحصار، ويكسر القاعدة، ويكسر الطاغي والباغي، ضوءا كاسرا، يمر من ثغرة الجغرافيا لتمر فاكهة إدلب، ومن ثغرة التاريخ، ليمر النور للأجيال، ولو مرة!

* هذه المدونة هي الجزء الأول من سلسلة "الملحمة" التي تحاول أن تكون شاهدة للشهداء والأحياء، والمدن والأحداث، واستحضار التفاصيل المنسية في أعداد الشهداء، وعواجل النشرات، والقرارات الأممية.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان