لم أنتبه وأنا أفكّر في تعريف السوريّ الثائر بأنّه الذي الموت أبرز وجوه تعريف حياته؛ أنّ ذكرى مجزرة جديدة عرطوز (ريف دمشق) الرابعة قد مرّت، 1/8/2012، المجزرة التي هي عدّة مجازر متلاحقة في حقيقة الأمر، وذلك لفرط ما شهدناه. وحاصرتني في الأسبوع الأوّل من شهر آب كما هي العادة روايات الأصدقاء من أهل الجديدة، وغيرهم، ووجدت زرقة الاختناق على أشجار الزيتون التي أعدم عليها شباب بأسلاك الهاتف، ورائحة الدم على جدار مدرسة تلقى رصاص الرشاشات الثقيلة. لا شك أنّ الزمن متوقف عند من هم مشدودة حياتهم إلى تفاصيل تلك المجزرة، الضحية كانت تضع رداء النوم، مسجاة، وكلما رُفع غطاء انهارت أمٌّ أو زوجة أو أخت أمام منظر العين الشاخصة. الضحية كانت شابًا في الأغلب.
وعمّا قليل تمرّ بنا ذكرى الموت اختناقًا، في غوطتيّ دمشق الغربيّة والشرقيّة، 21/8/2013. وغيرها ممّا هو يوميّ وأكثر.
لقد دارت الشمس دورتها
وصُفّي شعبٌ بين الحُجب
***
ولعلّ في محاولة تعريف المجزرة، من خلال اقتراح معايير تتضمن عدد المقتولين الأدنى في واقعة واحدة، أو وصف مسرح الجريمة، أو تحديد دوافع المجرم وتوقيت وسياق اقترافه لها؛ جريمةُ اغتيالٍ معنويّ مضاف بحقّ من لا يلبون هذه المعايير، أو إحداها، من ضحايا منفردين تركهم القاتل بلا أنفاس هادئين وهادئين في عتمة مدننا الوحيدة، أو من أسرة نُسيت مع الموت في بيتها بعد انصراف النهار والقتلة، أو رفقة اغتيلوا في فترات قيلولة الموت الفاصلة بين مجزرتين كبيرتين. تتوارى خلف تلك المجازر التي حظيت بالشهرة والاحتفاء – كما يليق بها كمجازر – مجزرة خفيّة مرعبة مستدامة مقسّطة، وقتل عشوائي عالي الانتقائيّة.
ثمّة دافع وضيع لفعل الإماتة الواسع في عالمنا المعاصر، إنّه طبيعة الحرب الحديثة عينها |
لكنّه من المفيد أنْ تفهم المجزرة في الحالة السوريّة على أنّها سياسة الموت المستدامة، أو الموت كاستراتيجيّة قائمة في ذاتها، وذلك أنّ قسطًا كبيرًا من المجازر كانت فاقدة لوظيفتها السياسيّة بطريقة ما. للمرء أنْ يسأل ما الذي سيفيد أيّة سلطة في العالم قتل عائلة في حيّ فقير في قرية نائية، أو رضّع ودارجين في أحضان أمّهاتهم، أو طفل في زنزانة التعذيب؟. وإنّ ذلك يحدث يوميًّا بالعشرات منذ ربيع 2011. ولذلك يخيّل للمرء بأنّ هناك نزوعًا لفعل الإماتة عينه عند الأسديّين وجنودهم وأشياعهم، ثمّة عشقّ مرضيّ لكلّ ما هو ميت أو جثّة أو مدمر أو مهشّم. جزء من ذلك ولا شك هو قتل وظيفيّ لغاية الحفاظ على سلطة ما، لكنّ الأسديّين وقد أدركوا سريعًا أنّهم مرفوضون وملعونون بلا رجعة، صار همّ القسط الأكبر من قتلهم لكلّ ما هو مناهض، أو شبه مناهض، أو غير موال، أو موال بين مناهضين؛ تعبيرًا عن انتقام يائس مفرط في وحشيّته، ممّا تم خسارته، لا لمّا يمكن أن يتم استعادته.
وثمّة دافع وضيع آخر لفعل الإماتة الواسع في عالمنا المعاصر، إنّه طبيعة الحرب الحديثة عينها، حيث تعطي الأسلحة الفتاكّة لمن يمتلكها شعورًا لعينًا بالقدرة على السيطرة، أو الإبادة. ما لا أملكه، أو لا أستطيع امتلاكه، أفنيه. وإنّ الإنسان ليطغى.
لقد صار اقتراف المجزرة عند الأسد وحلفائه ومليشياتهما عمليّة مركزيّة، في حالات كثيرة ومن وجوه عدّة بدت منفصلة عن أيّ توظيفات ممكنة. وعند كلّ مفصل من مفاصل الثورة والحرب، يظهر فيها تجذّر مقاومة مجتمعات الثورة وقطعيّة رفضها للأسد، ويبدو فيها أنّ المجزرة والجزارين المتوفرين غير فعّالين، يُستعان بها بجزّارين آخرين، محليّين وغير محليّين، مستجدين وذوي سوابق، ويوظّف أدوات جزارة أوسع وأشدّ فتكًا. كانت المجازر التي ارتكبت خلال عام 2011 و2012 تتم غالبًا على يد أجهزة المخابرات وفرق مختصّة من الجيش، وقد اشتهر كل من فرع المخابرات الجويّة والفرقة الرابعة مجزارين محترفين متوحشين، كان النظام يروّج هذه الصفات، ثم تمّ إدراج فرق الشبيحة، كجزارين محليّين، ومع الوقت حضر حزب الله اللبنانيّ مع الحرس الثوريّ الإيرانيّ، ومن ثمّ مليشيات الحشد الشعبيّ العراقيّ، وآخر من جاء جزار دوليّ معروف، بوتين روسيا. ومع كلّ جزار تأتي قصص وتوظّف أدوات، لبث الرعب، وآخرها في سياق حملتهم لتدمير حلب قصّة أنّ بوتين هو جزار غروزني. وهكذا.
***
وكان العهدُ ألّا نعتاد الموتَ، ألّا تكون المجزرة حدثًا مُطاقًا، ولا يكون النسيان مقبولًا، ولا اللوتس دواءً، وألّا يجفف الدمَ الليل، وألّا يمسي الشهيدُ في لحده وحيدًا، وألّا تكون الحياة ممكنة من بعد كلّ مجزرة. لقد خيّل إلينا بمحض الوهم أنّها مجزرة أو مجزرتين أو ثلاث، عشرين، أو أكثر بقليل أو كثير. لكنّ الأيّام تلاحقت لينشب الموت مخالبه في الثواني والدقائق والساعات. قلنا علينا أنْ نتعامل مع المسألة بحذر، أنْ نتعلّم من مجازر شعوب خلت، وعلينا أنْ نقول منذ البداية: "كلّ موت هو موت أوّل، مفاجئ، صاعق، غير معروف وغير مألوف" كما قال محمود درويش في تأبين المربي إبراهيم أبو لغد. لم ننجح. صار علينا أنْ نطيق اليوميّ قسرًا، لأنّ المجزرة نفسها صارت يوميّة، واعتياديّة.
وقلنا نرفض منطق الضحيّة، وصفة الضحيّة، ونرفض أنْ يحبّنا الآخر بوصفنا ضحايا. لنواجه جريمة اغتيالنا السياسيّ وتصفيتنا الجسديّة بالنشيد الخفيف والتبسم في وجه الردى وقوفًا، ولنتقمص حال احتضارنا صفة الظلال التي تميل للانصراف مع اختناق النهار، كي لا يبقى لنا أشلاء توقظ في أحدهم رغبة الشفقة المقيتة. ثمّ صار ويا للأسف أقوى المنطق، أنْ نكون الضحيّة التي لا تقهر، أو التي تؤرّق وتزعج.
المجزرة، في حالتنا، ليست واقعة أو مئة حدثت ويمكن نسيانها. إنّها مستمرٌّ منذ عقود، تفاقمت منذ ربيع 2011؛ مؤسسةً لذاكرة جمعيّة أليمة راغبة بالانعتاق، أو الانتحار نسيانًا. لقد أسست لسلاسل من قصص ومرويّات مفجعة لا تنتهي، أتخيله مرعبًا وكئيبًا جدًّا النمط الأدبيّ والفنيّ الذي سيتمخض عنها. أنا هنا لا أتحدث فقط عن التغيّرات والتغييرات الظاهريّة في السياسيّ والاجتماعيّ، وفي أديم الأرض، أرضنا، وصفة الوطن؛ أنا أتحدّث عن مراجعات عنيفة وعميقة لكلّ التفاصيل التي تكاملت على أنقاضها المجزرة.
***
يقتضي التأكيد بين كلّ مجزرتين على مشروعيّة وبطولة المقاومة والكفاح المسلّح ضدّ قوى الاحتلال الروسيّ والإيرانيّ والأسديّ |
ومع الأيام لم يعد من وقت لزفة الشهيد وتدويره في الساحات، ولا لنصب خيمة لتأبينه، ولقد كان استهداف النعوش والجنائز، استهدافُ الموت للموت، سياسة تحرم الضحية من تأسيس سردية للبطولة والعذاب، لم تكن مناسبات التأبين والتشييع حدثًا عاديًا، ولقد أدرك القاتل ذلك، لقد كانت مناسبات تؤسس لسردية جديدة حول الثورة والتضحية، وعن الوطن والحريّة.
نرفض المجزرة، لا بنسيانها، بل بعدم الاستسلام لمنطقها، عدم الموت بسببها، وتجنب صفات الضحيّة ونفسيّة المظلوميّة.. نرفضها بتأسيس ذاكرة جمعيّة متجاوزة لها، يقظة وواعية، عبر التذكير اليوميّ، كما هي المجزرة يوميّة وأكثر، بجوهر القضيّة، قضيّة الناس الأولى والكبرى. وهذا يتضمّن التأكيد على البعد السياسيّ لقضيّة الناس في ثورتهم، والامتداد التاريخيّ والوجوديّ لها، والجوهر الأخلاقيّ والإنسانيّ ضمنها، ووجوه العدالة والحقّ الناصعة فيها، ومقاومة دعاية الثورة المضادّة وحلفائها التي تستهدف الهويّات المؤسسّة والحاملة لها، ورفض الإطار أو القفص "المدنيّ الإنسانويّ" الذي يريد اغتيالها بحجة أنّ الجزّار محترف وعُتُلٌّ .
إنّها قضيّة انعتاق من حكم طغمة فاسدة ومجرمة منقرضة، وقضيّة تحرر من احتلال وقح ومتخلّف، وصدّ مشرّف لغزو تحركه نزعات قوميّة وطائفيّة مفرطة التطرف، غزو أشرس من بربريّ ومن تتريّ. وهذا يقتضي التأكيد بين كلّ مجزرتين على أهميّة وجدوى النضال السياسيّ ضدّ بنى ووظائف الاستبداد والاستعمار القديمة والجديدة، ومشروعيّة وبطولة المقاومة والكفاح المسلّح ضدّ قوى الاحتلال الروسيّ والإيرانيّ والأسديّ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.