مع ورود أنباء بدء المحاولة الانقلابية التي قامت بها مجموعة من الجيش التركي ضد الحكومة المنتخبة في ليلة السادس عشر من يوليو ترافق معها نبأ هام منذ البداية.
حيث أعلنت مديريات الأمن الاستنفار وطلبت من كل موظفيها الالتحاق بمقراتهم. كان هذا غريبا على الانقلابات العسكرية التي لم تشهد من قبل استنفارا شرطيا لمواجهة تحرك المؤسسة العسكرية حيث بحساب الإمكانيات والقدرات المادية والتسليحية فإن الأمر محسوم للقوات المسلحة.
فالمديرية العامة للأمن التركية هي قوة الشرطة المدنية المسلحة المسؤولة عن إنفاذ القانون في تركيا وعنها تتفرع مديريات الأمن في الولايات التركية. تعاملت الشرطة التركية مع تحرك القوات المسلحة كعمل يندرج تحت بند الخروج على القانون الذي يجب أن يواجه من قبلها بكل قوة لأن هذه مهمتها الأساسية كمؤسسة من مؤسسات الدولة التركية.
قام بعض المؤتمنين على مقدرات الشعب التركي العسكرية باستخدامها ضد إرادة هذا الشعب ولسلبه حريته، وهذه جريمة كبرى يقع عليها عبء مواجهتها وتوقيف المجرمين.
لم تلتفت لكون المجرمين من مؤسسة تركية كبرى لها هيبتها التاريخية ومكانتها وقدراتها التسليحية الكبيرة التي تنبئ بأن الاشتباك معهم مصيره الهزيمة التي تعني القتل أو الاعتقال من قبلهم. وهذا يدل على إيمان عميق بدولة سيادة القانون الذي جاء به أفراد المؤسسة الشرطية من قلب الشعب التركي وعاش أربعة عشر عاما كاملة في ظل ديمقراطية لا تعكرها تدخلات عسكرية فعرف قيمة الوجه المدني للدولة. ومعرفة هذه القيمة دفعتهم إلى محاولة الدفاع عنها بأرواحهم للحفاظ على حياة أهلهم وحريتهم.
لم نشهد من قبل في الانقلابات العسكرية استنفارا شرطيا لمواجهة تحرك المؤسسة العسكرية حيث بحساب الإمكانيات والقدرات المادية والتسليحية فإن الأمر محسوم للقوات المسلحة |
وقد قام الانقلابيون بقصف مقر المديرية العامة للأمن التركي في بداية تحركهم. إن تصدي الشرطة التركية بهذا الحسم بالسلاح لتحرك القوات المسلحة غير القانوني يشير إلى القطيعة الناجزة التي تمت بين الوعي الشعبي التركي وبين سلطة العسكر المعنوية على الشعب باعتبارهم مؤسسة فوق دستورية كما كان الوضع في عصر الانقلابات.
وتتبع مديرية الأمن التركي قوات خاصة بمكافحة الإرهاب مسؤولة عن التصدي للأعمال الإرهابية التي تتم في الداخل التركي كاحتجاز الرهائن وهي ذات تدريب قتالي احترافي عالي. هذه القوات منوط بها أيضا حماية رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية التركي، وهنا يتحمل المدنيون مسؤولية حماية رأس الدولة على عكس ما نعرفه نحن في وطننا العربي حيث تتولى القوات المسلحة هذه المهمة.
وكان الاختبار حيث هاجم 25 عسكريا الفندق الذي كان يقيم فيه أردوغان في مرمريس بهدف اغتياله في حال نجاته من القصف، ولكن تصدى لهم الحرس الرئاسي واستطاع منعهم في انتصار "مدني" آخر. كما تولت هذه القوات كل العمليات الأمنية في إطار التصدي للمحاولة الانقلابية والتي كان أهمها تحرير رئيس الأركان الذي اعتقله الانقلابيون والتعامل مع القواعد العسكرية المتمردة.
كان العامل الفاصل في فشل الانقلاب هو تمكن أردوغان من مغادرة الفندق الذي كان موجودا فيه قبل مهاجمته من قبل الانقلابيين.
لعب جهاز المخابرات التركي الدور الأساسي في نجاة أردوغان وتمكنه من مخاطبة الجماهير من مكان آمن عبر برنامج فيستايم من خلال هاتف مقدمة برامج على شاشة قناة "أن.تي.في" المعارضة. حيث دعا الجماهير إلى النزول إلى الشوارع والتوجه إلى مطار إسطنبول والمنشآت الحيوية.
بالتأكيد تفاصيل دور المخابرات التركية في الأحداث مازال غامضا إلى الآن بسبب طبيعة المرحلة والجهاز نفسه، إلا أن آثاره تتحدث عن نفسها. ففي اللحظات الأولى أعلنت المخابرات التركية أن أفرادها تلقوا تعليمات بالاشتباك مع الانقلابيين حتى الموت في موقف متضامن مع إرادة الشعب ومشارك بقوة في حماية حريته. ثم السرعة التي كان يتم بها الكشف عن تفاصيل العملية الانقلابية مثل مكان اعتقال رئيس الأركان ثم إدارة عملية تحريره.
حتى الآن تم اعتقال ما يقرب من السبعة آلاف مشتبه به ومتورط في عملية الانقلاب في يومين فقط مما يدل على وجود معلومات سابقة لدى المخابرات التركية عن هذه العناصر وربما عن هذه العملية التي كانت تنتظر فقط اللحظة المناسبة لإجهاضها.
في وسط الأحداث المتلاحقة علمت بتورط الملحق العسكري التركي في الكويت وتم إيقافه في الدمام لدى محاولته الهرب. إذن أظهر جهاز المخابرات التركي كفاءة عالية في إدارة مقاومة الانقلاب وهو الجهاز المدني التابع مباشرة لرئيس الوزراء كما يحدد قانون تنظيمه ويقودها حاقان فيدان الحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية وعضو حزب العدالة والتنمية.
أعداد الشهداء من المتظاهرين ارتقوا برصاص بعض الانقلابيين حين واجهوا الجنود، مقاومة بعض أفراد الشعب المسلحين كما ظهر في المراسلات بين الانقلابيين التي تم الكشف عنها.
الشعب الذي يفدي الديمقراطية بحياة أبنائه أثبت أنه يعرف بحق قيمة هذه الديمقراطية ويقدرها رغم حداثة عهده بها مقارنة بأمم أخرى |
قيام مزارع تركي بإحراق حقله الواقع بجوار القاعدة الجوية التي انطلقت منها الطائرات التي قصفت البرلمان لمنعها من إعادة الكرة. محاصرة أفراد الشعب لأي قاعدة عسكرية يظهر منها بوادر تمرد. قيام البلديات بقطع الطريق على الدبابات التي يشتبه في تحركها من القواعد العسكرية الانقلابية عن طريق الشاحنات الثقيلة.
امتلأت وسائل الإعلام المرئي والاجتماعي بحكايات المواطنين الأتراك الذين شاركوا من كامل الطيف السياسي في رفض الانقلاب عمليا بالتظاهر والاستيلاء على الدبابات وتحرير المنشآت. لقد رسم الشعب التركي لوحة عنوانها الشعب يحمي الديمقراطية بأبدع ما يكون.
لقد ثبت أن الشعب الذي يفدي الديمقراطية بحياة أبنائه يعرف بحق قيمتها ويقدرها رغم حداثة عهده بها مقارنة بأمم أخرى. وهو أكثر تقديرا لها من دول لطالما أعطت دروسا عن الحريات والديمقراطية ثم نضحت وسائل إعلامها بحقد مضحك عندما رأته ينقذ نفسه من براثن انقلاب قاتل.
ما الذي تعلمناه من تجربة الانقلاب الفاشل في تركيا؟ الكثير بالطبع، ولكن أبرز الدروس وأهمها هو أن القطاع المدني بشقه النظامي المسلح (الشرطة، قوات مكافحة الإرهاب، المخابرات) وشقه الشعبي (المواطنين، البلديات) قادر على مواجهة تحرك لقوات عسكرية متمردة وهزيمته. ويحدث هذا في بلد للعسكريين فيه مكانة خاصة مرتبطة بتاريخها الدستوري بل وبإنشاء الجمهورية أصلا.
قطعت هذه التجربة الصلة بين الشعب التركي وهذا التاريخ الممتد من سيطرة العسكريين بشكل عملي وردت الاعتبار للمدنيين. وكان اعتقال عناصر الشرطة المدنية للقادة العسكريين الانقلابيين تطبيقا عمليا لسلطة المدنيين على المؤسسة العسكرية كما هو الحال في دول العالم الأول. إن ما حدث لم يكن إنقاذا للديمقراطية فحسب وإنما مد لسلطانها إلى أفق جديد كان محرما عليها بلوغه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.