الصراع الحاد في ليبيا خلال العامين المنصرمين والذي أخذ أوجه عدة في مقدمتها المواجهات المسلحة العنيفة، قاد إلى انقسام سياسي وفوضى أمنية واختلالات في منظومة الخدمات بحيث أصبحت الكهرباء والنظافة وإمدادات المياه والوقود وحتى الخبز عرضة لانقطاعات تحيل حياة المواطن إلى بؤس.
هذا الانقسام قطع الطريق على استئناف المسار الديمقراطي عبر صندوق الاقتراع وفرض التوافق كمخرج من الأزمة، وبالتالي اتجه البعض للترويج لما يعرف بالديمقراطية التوافقية.
التوافق في ليبيا كان منقوصا وجاء بعد جولات عديدة وأفرز مسودات عدة يعدها رئيس البعثة الأممية بعد كل جولة تفاوض ويقدمها لطرفي الصراع |
الحوار السياسي الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة والذي انطلق في نوفمبر 2014 وكانت له جولات في العاصمة السياسية لدولة سويسرا، جنيف، ثم مدينة غدامس في أقصى الغرب الليبي، ثم استقر به الأمر في مدينة الصخيرات المغربية، أصبح وعاء المقاربة الأممية للتوافق.
نجحت المنظومة الأممية في جر طرفي الصراع في طرابلس وطبرق لطاولة الحوار، واستمر تعنت جبهة طبرق ممثلة في وفد البرلمان في رفض مقابلة وفد جبهة طرابلس مباشرة لأشهر، وتطلب الأمر ضغوطا دولية وتغييرا في فرق الحوار والتفاوض حتى التأم الطرفان في قاعة واحدة.
التوافق كان منقوصا وجاء بعد جولات عديدة وأفرز مسودات عدة يعدها رئيس البعثة الأممية بعد كل جولة تفاوض ويقدمها لطرفي الصراع فتكون عليها تحفظات فيضطر لجمعهم من جديد لأجل التقريب والتوصل للاتفاق إلى أن تم التوقيع على المسودة السادسة من قبل من لم يمثلوا أطراف الصراع وقتها.
فالدكتور صالح مخزوم الذي استقال اختيارا من عضوية ورئاسة وفد التفاوض وتم قبول استقالته من رئاسة المؤتمر الوطني العام الذي يقود جبهة طرابلس هو من وقع نيابة على وفد طرابلس، أيضا وقع محمد شعيب رئيس وفد البرلمان السابق بعد أن صدر قرار من رئاسة البرلمان بإقالته.
التوقيع بهذا الشكل المنقوص جاء بعد ضغوط مارسها المبعوث الأممي وسفراء الدولة الغربية المتابعة للحوار السياسي اللليبي، وأيضا كان نتيجة للانقسام الذي وقع في كل جبهة على حدة، مما يعني أن التوافق ليس مجمعا عليه وتعارضه بشدة أطراف فاعلة في كل جبهة، وقد لعبت تلك الأطراف دورا في عرقتله، وإذا أضفنا إلى مواقف الأطراف المعارضة ضعف منظومة التوافق والمتمثلة في المجلس الرئاسي، فقد تكون نتيجة الاتفاق السياسي سلبية والمحتمل جدا أن يفشل.
مجموعة الحوار السياسي الليبي، والتي كانت مشرفة على الاتفاق وحاثة لطرفي الصراع للتقارب، والتي تمثل نخبة من الأحزاب السياسية والنشطاء السياسيين والمجتمعين، عقدت عدة اجتماعات منذ التوقيع على الاتفاق السياسي في ديسمبر 2015، واجتماعاتها جاءت بعد العراقيل التي أعاقت تنفيذ الاتفاق وفي مقدمتها فشل البرلمان في اعتماد الحكومة التوافقية التي شكلها المجلس الرئاسي، وأيضا لشعور بعض أعضاء الحوار أن بعض التحديات تتعلق بتركيبة المجلس الرئاسي الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في تركيبته.
القضية المحورية هي أن استبدال الانتخاب بالتوافق لفرز السلطات لم يعالج الشرخ الكبير في المنظومة السياسية والأمنية |
الاجتماع الأخير لفريق الحوار والذي وانعقد بتاريخ 16 يوليو الماضي في تونس لم يخرج بجديد كان يتوقعه الكثير من أنصار الوفاق والاتفاق السياسي وهو إعادة النظر في تركيبة المجلس، حيث أقر المجتمعون التركيبة الحالية والتي تضم رئيسل المجلس وخمس نواب وثلاث وزراء دولة، ودعوا المجلس إلى إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والخدمية وفي الصدارة منها نقص السيولة وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة يوميا في أغلب المدن الليبية.
القضية المحورية هي أن استبدال الانتخاب بالتوافق لفرز السلطات لم يعالج الشرخ الكبير في المنظومة السياسية والأمنية ومن يمثلهما في البلاد، وكانت مخرجات التوافق غير مختلفة عن مخرجات الانتخاب، الأمر الذي يدعو إلى إعادة تقييم الوضع والبحث في الإشكاليات الأساسية التي قادت إلى استمرار مسلسل التأزيم.
إذ من الجلي أنه لا أرضية مشتركة بين طرفي الصراع، وأن ما يعتبره أحد الأطراف مطلبا جوهريا لا يمكن التنازل عنه أبدا يراه الطرف الآخر الخطر الداهم الذي لا يمكن القبول به جزما، ومثال ذلك مكانة الفريق خليفة حفتر الذي يعتبره من يعرقلون الاتفاق السياسي الراهن خطا أحمرا وينبغي أن يكون له مكانته اللائقة في المنظومة الأمنية الجديدة، فيما يجعل الطرف الآخر إبعاده من المشهد السياسي والأمني خياره الأساسي والمطلب الذي أقنع به أنصاره بجدوى الحوار وأهمية التوافق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.