شعار قسم مدونات

محاولة لانتشال اليسار العربي من الثورة المضادة

blogs - revolutoin
للمفكر الماركسي المجري جورج لوكاكش كتاب رائع بعنوان تحطيم العقل يزعم فيه أن مفكري الطبقة البرجوازية في أوروبا وأميركا بعد ثورات عام 1848 العمالية قاموا بمحاربة فلسفة الثورة الماركسية (المادية الجدلية) لأنها سوف تؤدي لحكم البلوتاريا وانحازوا لاتجاهات فلسفية غير ثورية سماها لوكاكش "فلسفات لا عقلانية" كالبراغماتية والنيتشوية والوجودية والتشاؤمية وغيرها من الاتجاهات التي سماها بالاتجاهات النيوهيغلية واتهمها بتحطيم العقل ومحاربة التنوير.
 

ويبدو أن بعض اليساريين العرب أصيبوا بصدمة من الربيع العربي مثل الصدمة التي تحدث للوكاكش أنها أصابت أقرانهم في أوروبا قبل قرنين واختاروا عن سبق إصرار وترصد أن يكونوا في جانب الثورة المضادة وتضليل الجماهير، فالحاكم الدكتاتور أصبح عندهم هو الحاكم الضرورة، والقمع الدموي أصبح دليلاً على هيبة الدولة، والمجتمع أصبح عندهم مسؤولاً عن حماية الدولة عوضاً عن أن تكون الدولة مسؤولة عن حماية المجتمع، والشباب الإاشتراكي المناهض للسلطات أصبح شباباً طائشاً ويساراً طفولياً، فما الذي حدث لليسار العربي؟ وما سر هذه النكسة الكبيرة التي أصابته؟
 

انحلت الأحزاب الماركسية العربية وذابت داخل السلطة، ثم استعانت بهم السلطات في ضرب الحركات الإسلامية الصاعدة بعد نكسة 1967

يرجع المفكرون اليساريون الأزمة إلى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي الذي دعا فيه خرتشوف إلى التعايش السلمي بين النظام الشيوعي والرأسمالي، ثم توجه السوفيات لدعم حكومات عسكرية موالية لهم في العالم الثالث، فكانت فكرة التطور اللارأسمالي والتي قادت لأن تنضوي الأحزاب الشيوعية العربية وغيرها من أحزاب اليسار تحت لواء الحكومات البرجوازية الوطنية المعادية للاستعمار والمتحالفة مع الاتحاد السوفياتي، فانحلت الأحزاب الماركسية العربية وذابت داخل السلطة، ثم استعانت بهم السلطات في ضرب الحركات الإسلامية الصاعدة بعد نكسة 1967، واحتل اليساريون وزارات الثقافة والإعلام، وألقي على عاتقهم مهمتان صعبتان جد، الأولى هي الدفاع عن السلطة وتبرير تصرفاتها، والثانية هي مهمة تنوير المجتمع وانتشاله من قبضة ما يسمونه بتيار الإسلام السياسي.
 

ومع الزمن نسي اليساريون إلا قليلا منهم فكرة الثورة تماماً وتحول اليساريون الثوريون لمثقفين إصلاحيين منتهى أملهم أن تخرج لهم الدولة العربية الرسمية من رحمها الأمني العسكري ذلك المخلص ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.
 

و في غفلة من الزمان هرب الدكتاتور التونسي بعد أن انفجرت ثورة شعبية ضده في ديسمبر/كانون الأول من عام 2010  عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد وبعد ذلك بشهر واحد قرر الرئيس المصري السابق مبارك تنحيه عن السلطة وتسليم الحكم للجيش، وفي الثورتين الشعبيتين العفويتين كان اليساريون هم من المجموعات التي حاولت تهدئة الثورة التونسية والمصرية عبر مبادرات ولجان حكماء، ولم تنحز النخب اليسارية للثورة بشكل حقيقي ولم يحفظ لليسار وجوده سوى تلك التيارات اليسارية الشبابية التي يسمونها باليسار الطفولي أو اليسار البرتقالي والتي استمرت في العمل الثوري حتى تم إسقاط رأسي النظام في مصر وتونس.
 

لقد كانت الثورة الليبية ومن بعدها السورية لحظتين فاصلتين في التاريخ العربي، ففي ليبيا استخدم العقيد الليبي سلاح الجو والمدافع المضادة للطيران من أجل فض مظاهرة الشباب في الساحة الخضراء في طرابلس ومظاهرات بنغازي، وأما في سوريا فقد استخدم نظام الرئيس بشار الأسد البراميل المتفجرة والمليشيات الأجنبية ذات الطابع الطائفي المتشدد لقمع شعبه الثائر ضده، وكل هذا فتح الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية بتدخل حلف الناتو في ليبيا لمنع مذبحة مؤكدة في بنغازي.
 

وفي سوريا تدخل المجتمع الدولي بغض الطرف عن الدعم الروسي للنظام السوري، غير أن أحزاب اليسار العربي ذات الطابع الستاليني اللينيني خرجت لتحدثنا عن المؤامرة الإمبريالية ضد حكومة القذافي، وأن ثوار ليبيا ليسوا سوى ثوار للناتو وعملاء له، وكأن حلف الناتو هو من قاد مظاهرات 17 فبراير/شباط أمام محكمة بنغازي، أو أن حلف الناتو هو من أخرج مظاهرات التضامن مع بنغازي في الساحة الخضراء في طرابلس.
 

وأما في سوريا فقد وقفت أحزاب اليسار العربي العتيق مؤيدة للرئيس بشار الأسد منذ أول مظاهرة في درعا متهمة الثوار السوريين بأنهم عملاء للغرب ومخربون وثوار للناتو، وعندما استعان بشار الأسد بالمرتزقة الطائفيين صاحت أبواق اليسار لتحدثنا عن إرهاب داعش والنصرة، وقامت تلك الأبواق بتبرير مجزرة الغوطة الكيمياوية، وكانت الطامة الكبرى عندما اصطفت هذه التنظيمات اليسارية مع الغزو الروسي لسوريا والذي بدأ في سبتمبر/أيلول الماضي ودافعوا عن تدخل روسيا الدولة الاستعمارية عسكريا لحماية مصالحها في سوريا، وعن تدخل دولة طائفية وهي إيران، وقالوا إن تدخلهم ضروري من أجل وقف المد العثماني الأردوغاني، وتبين للجميع أن موقفهم الرافض للتدخل الخارجي كان موقفا تكتيكياً وليس أيدولوجياً، فالتدخل الخارجي إذا كان في صالحهم فهو مرحب به، والقواعد العسكرية الأجنبية إذا أقيمت في الأرض العربية لدعم حلفائهم كقاعدة حميميم وطرطوس فهي أمر إيجابي.
 

لو أن اليساريين وجهوا انتقاداتهم وخططهم الإصلاحية لطرح برامج وخطط لإصلاح منظومات التعليم والصحة لكان في هذا الخير العميم للمجتمع

إن المشكلة الكبرى لليساريين العرب أنهم بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وانهيار أول تطبيق للفكر الماركسي وهو التطبيق اللينيني شغلوا أنفسهم بأن يكونوا مضاد فكري للتيارات الإسلامية ذات الطابع السياسي ونسوا أفكارهم التي طالما ناضلوا من أجلها وخصوصاً فكرة العدالة الاجتماعية، حتى أنني تذكرني فيهم مقولة عمر بن الخطاب في مسيحيين قبيلة تغلب عندما قال "إنهم ليسوا بأهل كتاب فهم لم يأخذوا من دين أهل الكتاب إلا شرب الخمر"، ويبدو أن اليساريين العرب اليوم لم يعودوا ماركسيين فهم لم يأخذوا من الماركسية إلا العلمانية.
 

كيفية إعادة اليساريين إلى البوصلة الصحيحة؟
أعتقد أن اليساريين العرب بإمكانهم العودة لأحضان أمتهم، فهم إلى الآن لم يغرقوا في بحر الثورة المضادة، ولكن عليهم القيام بخطوات عملية من أجل أن تصطف كل قوى الأمة ضد الدكتاتورية والإرهاب، وهذه الخطوات أختصرها في الآتي:
 

1. عمل مراجعات جادة لموقفهم من الديمقراطية، فقد أظهر الربيع العربي أن القطاع الأوسع من اليساريين العرب غير حريصين على الديمقراطية، وهم مستعدون للتصفيق لكل حاكم يأتي ليقمع طالما سيمنحهم جزءا من كعكعة السلطة، ومستعدون علنا للعمل مع كل دكتاتور.
 

2. الأخذ بنصيحة المفكر نعوم تشومسكي والقيام بتحالفات مع التيارات الدينية، أي تحالفات تتجاوز الاستقطاب الأيدولوجي مثل التحالف الذي نشأ في أميركا الجنوبية بين اليساريين وبعض رجال الكنيسة ضد الاستبداد والفقر، وسمي هذا التحالف بلاهوت التحرير.
 

3. توقف اليسار العربي عن تصدير كتابات ناقدة للدين، فنحن نعيش في ظل مجتمعات محافظة ومتدينة، ولو أن اليساريين وجهوا انتقاداتهم وخططهم الإصلاحية لطرح برامج وخطط لإصلاح منظومات التعليم والصحة لكان في هذا الخير العميم للمجتمع.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان