شعار قسم مدونات

في جذور مذبحة رابعة العدوية

blogs - hamza

دقت الساعة الخامسة
ظهر الجند دائرةً من دروعٍ وخوذات حرب
ها هم الآن يقتربون رويداً.. رويداً..
يجيئون من كل صوب
والمغنّون -في الكعكة الحجرية- ينقبضون
وينفرجون
كنبضة قلب!
يشعلون الحناجر،
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة
يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب
يشبكون أياديهم الغضة البائسة
لتصير سياجاً يصد الرصاص!..
الرصاص..
الرصاص..
وآهٍ..
يغنون: "نحن فداؤك يا مصر"
"نحن فداؤ…"
وتسقط حنجرةٌ مخرسة
معها يسقط اسمك -يا مصر- في الأرض!
لا يتبقى سوى الجسد المتهشم.. والصرخات
على الساحة الدامسة!
دقت الساعة الخامسة
دقت الخامسة
دقت الخامسة
وتفرق ماؤك -يا نهر- حين بلغت المصب!
*****
 

من المذهل أن نعلم أن الشاعر المصري أمل دنقل كان قد كتب هذه الأبيات من قصيدة "سفر الخروج" -والتي تحاكي بصورة مذهلة أحداث مجزرة فض رابعة- قبل المجزرة بأربعة عقود تقريباً، فيما يبدو وكأنها نبوءة شعرية، لكنها نبوءة استندت على مقدمات وأسس نسعى في هذه التدوينة للكشف عنها.
 

في تسلسل الأحداث ثمة تشابه مذهل بين ما تنبأ به أمل دنقل في القصيدة وبين ما حدث بالفعل في ثورة يناير 2011

جاءت هذه القصيدة للشاعر المصري أمل دنقل في عام 1972، وقد كتبها أمل إبان مظاهرات حاشدة عمّت ميدان التحرير في القاهرة ضد سياسات الرئيس أنور السادات، في قصيدة "سفر الخروج" سيأخذ أمل دنقل هذا الحدث إلى نهايته حيث سيتصور قيام ثورة شعبية عارمة ضد السلطة، تنتهي برد عنيف وجذري من الدولة ضد "مواطنيها" العزل وذلك عندما تقرر ببساطة إبادتهم في الميدان الذي احتشدوا فيه.
 

في تسلسل الأحداث ثمة تشابه مذهل بين ما تنبأ به أمل دنقل في القصيدة وبين ما حدث بالفعل في ثورة يناير 2011، حتى في تنبئه بمواقف بعض الطبقات الاجتماعية كطبقة الفنانين والإعلاميين التي اصطفت بجانب نظام حسني مبارك، كما أشار لها في واحد من مقاطع القصيدة.
 

قد يقال إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى مصادفة جمعت بين نظرة تشاؤمية لشاعر رومانتيكي كأمل دنقل وبين حدث مأساوي جاء بعدها بأربعة عقود، لكننا إذا أمعنا النظر في واقع دولة ما بعد الاستعمار العربية وعلاقتها بالسكان المحليين فإننا سنجد أن الأمر لم يكن صدفة عابرة، بل كانت نبوءة بالمآلات استندت على مقدمات استقرائية لطبيعة هذه الدولة.
 

يدفعنا هذا للتساؤل عن تلك السمات الجوهرية التي انطوت عليها الدولة العربية، والتي جعلت من الممكن لأمل دنقل أن يتصور الطريقة التي سترد بها هذه الدولة على مواطنيها العزل وفي إحدى أكبر الساحات العامة في العاصمة الإدارية القاهرة.
 

في كتابه الذي كشف بشكل مبكر في مطلع التسعينيات عن جذور المحنة العربية والمتمثلة في واقع "الدولة ضد الأمة"، قدم د. برهان غليون قراءة قـيـّمة لأسباب تغول الدولة العربية والقطيعة بينها وبين المجتمعات، مرجعاً ذلك إلى ما أسماه بالنموذج "التحديثي" للدولة العربية، وهو النموذج الذي أفضى إلى انفصال الدولة عن المجتمع وإنتاجها لنخب اجتماعية أقرب ما تكون إلى النخب الاستعمارية الاستيطانية التي نظرت للمجتمعات المحلية بوصفها شعوباً متخلفة ومتأخرة ما جعلها موضوعاً للإصلاح والتحديث، لا باعتبارهم ذوات راشدة لها حقوقها السياسية والاجتماعية.
 

كان هذا الدور "التحديثي" الوظيفي الذي اضطلعت به الدولة العربية -بوصف الدولة الأداة الأكثر فعالية وقدرة على إخراج المجتمعات العربية من حالة التأخر، الذي كانت تعيش فيه مقارنة بمعايير العصر، إلى اللحاق بركب الحضارة الغربية ومنجزاتها الصناعية- كان سبباً رئيسياً في تشكل واحدة من أكثر صور الدول الحديثة تغولاً وتوحشاً ومراكمةً لأدوات الضبط والتقييد والسيطرة ووسائل القمع وقهر المجتمعات وإخضاعها وذلك تحت ذريعة التنوير والتحديث.
 

قدمت الدولة سردية وصورة عن نفسها وعن مواطنيها، فهي الدولة الطليعية التنويرية شديدة العقلانية والتي يناط بها المهمة التاريخية بعقلنة وتنوير المجتمعات "المتخلفة"، وهم -أي المواطنين- من يمثلون عنصر التخلف والتأخر والرجعية، فأصبحوا بذلك موضوعاً لاشتغال السلطة ومجرد مادة خام تشكلها أجهزة الدولة بحسب مشيئة نخبها، على وهو ما أدى بالمجمل وعبر سيرورة طويلة إلى "الانفصال الكامل للدولة عن المجتمع وسيطرتها الشاملة عليه"، كما ولّد ذلك نزوعاً مستمراً لدى النخب المسيطرة على الدولة نحو "التغول على المجتمع والاستهانة بإرادته ووجوده" قبل الانقلاب عليه، واستغلال تفتته، لبناء نظام تسلطي يستخدم الدولة وسيلة للسيطرة، وبالنتيجة خلقت الدولة مجتمعاً مسلوب الإرادة أمامها.
 

لم تكن مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية سوى لحظة نماذجية وصورة شديدة الكثافة والرمزية من تاريخ "الدولة ضد الأمة"

في الفصل الأخير من الكتاب طرح د. برهان غليون تساؤلاً عن المآلات المتوقعة في ظل هذه الدولة المضادة للأمة، مستشرفاً مآلين لا ثالث لهما: الأول إما حدوث انتقال ديمقراطي بطيء يضمن تفكيك البنية المركزية السلطوية للدولة وأجهزتها القمعية، وإما أن تُدخِل هذه الدولة المجتمعات العربية في أتون صراعات وحروب دموية متى ما رفعت صوتها وطالبت بحقوقها .
كان هذا هو السياق الذي أفرز المجتمع المسلوب والمسحوق أمام غول الدولة "وصار فيه قتل الأفراد بالمئات والآلاف بمنزلة الأضاحي وأكباش الفداء المطلوبة لحفظ هيبة الدولة وبقائها".
 

بدا واضحاً منذ زمن أن ما ينتظر العرب في حال خروجهم عن حظيرة الطاعة ليس سوى المزيد من القمع والتوحش، كانت الهـوة بين المجتمع والنخب الحاكمة تزداد وتتسع مع مرور الزمن، وبالفعل عندما خرجت الشعوب العربية للمطالبة بالحرية والديمقراطية وتحرير المجال العام من هيمنة الدولة لم تجد سوى الرصاص والغازات المسيلة للدموع رداً على مطالبها.
 

خلال بضع ساعات من نهار، لم تتوان الدولة العربية من قتل آلاف المعتصمين السلميين في ميدان رابعة العدوية على مرأى ومسمع العالم، ولم تتورع بعد ذلك من حرق جثثهم ومماطلة ذويهم بعدها في منحهم شهادات وفاة ، كان هذا -من وجهة نظر الدولة- ثمناً ضرورياً ولازماً للحفاظ على الدولة -التي قامت على أساس مضاد للناس- واستقرارها.
 

لم تكن مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية سوى لحظة نماذجية وصورة شديدة الكثافة والرمزية من تاريخ "الدولة ضد الأمة"، ويبدو أن هذا النمط الهولوكوستي للدولة العربية في الرد على آمال الناس ومطالبهم كان أمراً حتمياً، أو إذا أردنا الحديث بلغة السيسيولوجيا فإن العنف يعدّ مكونا بنيويا في علاقة الدولة العربية بشعبها، لذلك لم يكن من المستغرب أن يتنبأ بهذا المصير شعراء وأدباء ومفكرين قبل حدوثه.
 

رحم الله شهداء رابعة وشهداء الحرية جميعاً الذين قضوا في هذا الفصل المظلم من التاريخ العربي ليحدثوا خرقاً في جدار الزمن المستحيل ليمر النور للأجيال من خلاله.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان