شعار قسم مدونات

إعادة تعريف "اللياقة السياسية"

blogs - trump
 
ربما لا يكون بالإمكان أن نجد ما هو أكثر مللا من الإصغاء إلى واحد من هؤلاء المرشحين السياسيين وهم يدبجون عباراتهم الجوفاء التي لا يمكن فيها الإمساك بأي انحياز واضح أو قول ثابت.

يشبه الأمر في بلادنا التي لم تعتد الإصغاء إلى مرشحين سياسيين، كوننا -ولله الحمد- مجمعين باستمرار على زعيم واحد هو رجل الأقدار المرسل لقيادتنا «من غير لجنة ولأ وآه» وفقا لأوبريت «اخترناه» الشهير، أن تقرأ افتتاحية صحفية لواحد من رؤساء تحرير الصحف الرسمية الذين أخذ مستواهم ينحدر مع انحدار كل شيء تحت وطأة الاستبداد.

يبدو أن جورج أورويل كان عرَّافا إذ أن مظهرا من مظاهر الطاغوتية الحديثة لم يفته تسجيله في روايته الشهيرة «1984»، ومن بينها «اللغة المخادعة newspeak»، التركيب الذي يتيح لنا المجاز والألاعيب اللغوية أن نترجمه أيضا «كلام الجرائد».

اللياقة السياسية هو تعبير كان يستخدم قديما لوصف الملتزمين بالخط السياسي للحزب الشيوعي الستاليني

وهي لغة تمت تصفيتها من أية تعبيرات أو مفاهيم قد تكون مزعجة للسلطة، وبما أن اللغة هي وعاء الفكر، فإن هذه اللغة ستمنع بعد ترسيخها وإزاحة اللغة القديمة، أي إمكان للتفكير النقدي. تقترب لغة هؤلاء السياسيين والصحفيين الفارغة من تلك اللغة التي تخيلها أورويل.

حديثا، لاحظ بول كروجمان، الاقتصادي الأمريكي المزعج الذي لا يكف عن مهاجمة النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم وداعميه السياسيين، أن «التهديد الأكبر لخطابه إنما يتمثل في اللياقة السياسية التي يطالب بها اليمين، والتي خلافا للرؤى الليبرالية (علينا أن ننتبه إلى أن الليبرالية في الولايات المتحدة تصف الميول اليسارية) تمتلك وراءها الكثير من المال والسلطة.

والهدف هو بالضبط ضرب مما حاول جورج أورويل وصفه بـ اللغة المخادعة/الكلام الجديد: أن يجعله مستحيلا أن تتحدث، أو حتى أن تفكر، فيما يمثل تحديا للنظام القائم» (نيويورك تايمز، 26 مايو 2012).

اللياقة السياسية Political Correctness، أو بالأحرى هنا: الصواب السياسي، هو تعبير كان يستخدم قديما لوصف الملتزمين بالخط السياسي للحزب الشيوعي الستاليني.

لكن المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وتحديدا مع صدور «غلق العقل الأمريكي» لـ ألان بلوم 1987، أعادوا توظيف المصطلح في الثمانينات في هجومهم على التعليم العالي الأمريكي الذي رأوه منحازا، بحجة الحفاظ على الصواب السياسي، لأفكار ليبرالية (مرة أخرى، المقصود في الولايات المتحدة بالليبرالية هو الميول اليسارية) تضر بالعقل الأمريكي، في نظر هؤلاء المحافظين، كالاحتفاء بالتمييز الإيجابي affirmative action (التمييز في فرص العمل مثلا لصالح الفئات المهمشة، كذوي الاحتياجات الخاصة، والذي لا يحبذه المحافظون الأمريكيون).

وقد كان فيلسوف اليسار الجديد هربرت ماركوز قد نجح بالفعل في غرس قيم اليسار الجديد بين قطاعات عريضة من طلاب الجامعة في أمريكا. وقد رد اليساريون الهجوم كما في ملاحظة بول كروجمان، بأن لدى اليمين أيضا أفكاره حول ما هو لائق سياسيا أو صائب سياسيا Politically Correct.

ما يهم، هو أنه، ومنذ مطلع الألفية على الأقل، صار على كل سياسي أن يلتزم بلغة جوفاء، ولنقل متحفظة، تجاه كافة القضايا الشائكة اجتماعيا؛ كالتهجم على دين بعينه، أو الهجوم على المعارضة، أو على فئات اجتماعية معينة كالشواذ (اللياقة السياسية هنا مثلا تقتضي أن نقول: المثليين)، تحت لافتة: الالتزام باللياقة السياسية/الصواب السياسي؛ التي تعني ربما ألا يغضب السياسي أحدا، أو أن يكون مائعا بما فيه الكفاية لينتخبه الجميع.

يمكننا أن نلمس بوضوح هذا الفارق الذي صنعته اللياقة السياسية في فحوى خطاب السياسيين، إذا ما قارنا خطابات فرانكلين روزفلت ضد الرأسماليين الأمريكيين، بخطابات أوباما الذي لم يتمكن من تحديد أي موقف، حتى وإن نجح عمليا في تجاوز الأزمة المالية.

أثبت ترامب أن الرهان على خرق خواء اللياقة السياسية المصطنعة هو التكتيك الأكثر «صوابا» سياسيا.

لا ينبغي فصل مسألة اللياقة السياسية أو الصواب السياسي عن أفول الأيديولوجيات. فبعدما انفلت عالم السياسة من هيمنة أيديولوجيات كبرى، كالشيوعية والقومية، لم يعد يحكم عالم السياسي سوى خطاباته البرجماتية، وقد افتتح ريجان في الثمانينات عصر السياسي اللبق القادم من عالم التمثيل في السينما إلى عالم التمثيل على المنصات الرسمية. ولم يعد السياسي الذكي حريصا على أن يستخدم خطابا تعبويا أو انحيازات واضحةلصالح قيم أو مواقف محددة.

في هذا العالم ظهر دونالد ترامب المرشح الذي قرر ألا يُعير اللياقة أي اهتمام. هاجم ترامب المهاجرين، وهاجم خصومه، بل وهاجم تعاملهم مع قضايا السود في أمريكا، ووصف تعامل الديمقراطيين مع مجموعة «أرواح السود تهم Black Lives Matter» بأنه «عار». في 19 يوليو، حصل ترامب أخيرا على الترشيح الرسمي من قبل الحزب الجمهوري، ولم تنجح كافة المحاولات لحصاره. أخيرا أثبت ترامب أن الرهان على خرق خواء اللياقة السياسية المصطنعة هو التكتيك الأكثر «صوابا» سياسيا.

يمكننا اليوم أن نتساءل بلا تردد: ما هو الصائب سياسيا والأكثر لياقة؟ بعد أعوام طويلة من التعطش لكلام ممتلئ، لكلام ذي معنى، له طعم ولون ورائحة، عاد بريق مثال السياسي الذي يمتلك الشجاعة للتعبير عن انحيازاته ومواقفه بوضوح، ليلمع من جديد.

أكثر من ذلك، فإن الدور الذي يمكن أن يلعبه الخطاب والتماسك الأيديولوجي في السياسة، وفي إعادة ترتيب التوازنات، عاد ليبرز، كما رأينا مؤخرا في انقلاب تركيا. وإذا كان ترامب هو مجرد ثري تافه ضل طريقه إلى السياسة، وليست تصريحاته أكثر من هذر شعبوي معتاد، فإن السياسة لا ينبغي من جهة أخرى أن تبقى مجالا لشخصيات برجماتية بلا شخصية واضحة أو انحيازات مبدئية.

كما أننا، في بلدان تستعر فيها المعركة بين قوى إصلاح ضعيفة، وقوى فساد واستبداد قوية، في حاجة إلى مثل هذا الوضوح في الخطاب والتمايز لتعبئة الجماهير والحفاظ على طبيعة المعركة من التلاعب الإعلامي ومقارعة أصحاب المال والسلطة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان