شعار قسم مدونات

شيخوخة الكرسي العربي

blog الكرسي

بنظرة خاطفة ينتهي المتابع للمشهد السياسي العربي إلى قناعة لا يختلف حولها اثنان، ولا تتناطح عليها عنزتان، قناعة تلخص حجم البؤس واليأس الذي أضحى طاغيا.
 

مشهد يبدو فيه الحاكم العربي عنصرا رئيسيا، ماسكا بخيوط مؤسسات الحكم، فهو يحركها كيف شاء ومتى شاء، ولأي غرض شاء، وتبدو الديمقراطية أعظم غائب في حضرة الحاكم العربي، وفي الآن ذاته، أكبر خاسر، ولا شك أيضا أن متلازمات الديمقراطية بدورها لن تجد لنفسها مكانا في هذه الحضرة "المتألهة" فلا استقلال للسلط ولا تداول على السلطة، ولا ربط بين السلطة والمحاسبة سلطة منفلتة من كل عقال المساءلة.

يعاني العالم العربي من أزمات متعددة في أغلب المجالات، تبدأ بضعف واضح في مجال الصناعة، وإخفاق كبير في التعليم والبحث العلمي

فإلى أي حد تؤثر سوداوية المشهد على المواطن العربي، وكيف تؤدي هذه العناصر الاستبدادية وظيفتها التدميرية في تأخير مسيرة التنمية؟
يعاني العالم العربي من أزمات متعددة في أغلب المجالات، تبدأ بضعف واضح في مجال الصناعة، وإخفاق كبير للتعليم والبحث العلمي، واحتلال مراتب متأخرة في مؤشرات التنمية البشرية، ولا تنتهي بالفشل في تحقيق الإكتفاء الذاتي في المجال الغذائي، وغياب مهول للحريات وحقوق الإنسان.

هذه الإخفاقات المتراكمة إنما هي إنعكاس طبيعي للإخفاق السياسي، الناتج عن غياب الديمقراطية من الساحة العربية إلا فيما ندر، في أشكال أحزاب سياسية كرتونية لا تلبي طموحات الناس، أحزاب في واجهة بيت حديقته الخلفية حبلى بالقمع والإستبداد.

إستبداد قروني نال من وهج الحضارة الإسلامية المتألقة فانكفأ تبعا لذلك العالم العربي على ذاته، وبذلك قل الإنتاج وتضخمت معدلات الإستهلاك ليصبح العرب مع هذا الواقع يعيشون تبعية سياسية واقتصادية للخارج المتربص لمجرد غفوة وكبوة، فكيف بسبات يزيد من حدتها، تغول الحاكم الأناني الماكيافيلي في الداخل وتوالي ضرباته.

حاكم لم تفرزه صناديق الانتخابات، ولم تسيده إرادة المرؤوسين، وإنما اعتلى صهوة الشرعية التاريخية عنوة، وظل يعزف عليها زمنا، فاستكان إليها البعض وقالوا إنها ملاذ من الفتن ومجلبة للأمن، وعارضها آخرون ورأوا فيها مبررا مقيتا للتسلط والاستحواذ.

حاكم يأنف من الديمقراطية على علاتها ويرى فيها تهديدا لكينونته وسيادته، وأن ما إليه تدعو نقيض ما هو عليه من سطوة وجبروت، فإذا كانت الديمقراطية هي اختيار للحاكم لا إكراه في ذلك، وهي أيضا تداول سلمي على السلطة، وكذا فصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وتمتيع كل واحدة منها بـ "استقلالها الذاتي"، فإن استبداد الحاكم العربي غير مستعد لهكذا تنازلات ودخول صرح المنافسة، فهو إن فعل علم يقينا أنه خارج دائرة الاختيار.

 الحاكم الطالب للثروة المنشغل بل المشتغل بمراكمة الأموال والخوض في التجارة لا فكاك له من مخالطة الفساد حتى يصير أصلا من أصول معاملته التجارية وممارسته السياسية

ولا يفوت الحاكم العربي أن يستدعي بعضا من صور الديمقراطية، يؤثث بها قلعته ويخرس بها الأصوات المطالبة بدولة الحق والقانون، فهو يرى أنه لا ضير في استعمال بعض أجزائها لتغطية الثقوب، وتلميع الصورة، بغية الإمعان في إخضاع الرقاب وإذلالها، وإنما الإحتراز كل الإحتراز من الخطر الداهم إن هو سمح لها بالحضور في المشهد مكتملة الأركان، ولما كانت الديمقراطية لا تقبل التجزيء فقد تولد عن هذا الفعل مخلوق هجين، وهو ما سماه المفكر الراحل البروفسور المهدي المنجرة، رحمه الله (1933-2014)، بـ"الذلقراطية" وهي سياسة قائمة على الإذلال بمساحيق الديمقراطية تركيبة من ديمقراطية شوهاء خداج، وإخضاع بصولجان الاستبداد، والنتيجة ذل وصغار تتجرع مرارته القاعدة المحكومة، في مقابل رأس الهرم قلة متحكمة بكل شيء وتملك كل شيء.

وهذا يقودنا إلى الإشارة لمسألة غاية في الأهمية والخطورة، هي الجمع بين السلطة والثروة.. فالحاكم الطالب للثروة المنشغل بل المشتغل بمراكمة الأموال والخوض في التجارة لا فكاك له من مخالطة الفساد حتى يصير أصلا من أصول معاملته التجارية وممارسته السياسية، وبذلك تضيع مصالح العباد بين طمع الحاكم وهواه، وقد أشار إلى ذلك عالم الاجتماع والمؤرخ العربي ابن خلدون، رحمه الله،(1332-1406م) حين تعرضه لفساد الحكم المرتبط بالتجارة.

ومما يزيد الوضع تأزما طول الفترة التي يقضيها الحاكم العربي على الكرسي فهي إن لم تكن عقودا فهي قرونا حتى ما يكاد يقوى على الجلوس على الكرسي، فكيف يستطيع تسيير شؤون البلاد والعباد وأغلى أمانيه أن يقضي حاجته في دورة المياه بنفسه دون مساعدة.

ذلكم مختصر قصة الحاكم العربي فهو يموت فداء للكرسي، ويفنى فيه، وينحني له وعليه، حتى يشيخ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.