قد يقول قائل إن الأمر هذه المرة مختلف. مختلف لأنه يدخل ضمن سيرورة تصاعدية من مسلسل كشف الفساد والمفسدين الذي بدأ بعد الحراك الشعبي الذي قادته حركة 20 فبراير وما تلاه من تبني دستور جديد في 29 يوليو 2011 منح سلطات أوسع لرئيس الحكومة وأبقى على هيمنة المؤسسة الملكية على الدوائر السيادية الأبرز.
هذا المسلسل الغير المنتظم دائما مر عبر محطات مهمة لكن عابرة للأسف تم التعاطي فيها مع ملفات يعرف المغاربة جيدا حساسيتها وتجذرها في لاوعي "المخزن" بتفرعاته المركزية والمحلية وتأصلها في منظومة الفساد والريع داخل المملكة. منها ملفات رخص النقل -المعروفة بـ "الكريمات"- ورخص المقالع والصيد في أعالي البحار- التي طويت صفحاتها بعض فصول من الهرج والمرج الإعلامي ظن معهما الكثيرون أن المغرب استعاد أخيرا بوصلة النهج الديموقراطي المعادي للفساد والمفسدين، قبل أن يتضح أن التحدي أكبر من الجميع وعلى رأسهم حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي رفع منذ اليوم الأول شعار محاربة الفساد واقتصاد الريع.
أحد مؤشرات الارتباك السياسي أيضا التي تلت الكشف عن ملف "خدام الدولة" تمثل في التراشق الحزبي المبطن أحيانا والصريح أحيانا أخرى قبيل الاستحقاق الانتخابي |
تستوقفنا في قضية "خدام الدولة" هذه المرة مجموعة من المواقف اللافتة التي تظهر مدى التخبط الحاصل إعلاميا وفي المكونات الحزبية التي تتصدر المشهد أو في منظومة الحكم القائمة، في مقابل وعي شعبي متزايد -جسده التفاعل الكبير مع الملف بمواقع التواصل الاجتماعي – بضرورة كشف المستور وفضح الممارسات التي تشين التجربة الديموقراطية الناشئة وتشكل حجر عثرة في طريق الإصلاح الحقيقي.
أول مظاهر هذا التخبط تمثل في ردة فعل وزارتي الداخلية والاقتصاد اللتان سارعتا من خلال بيان مشترك إلى الدفاع عن والي مدينة الرباط بعد أن أعلن اسمه كأول المستفيدين في ملف "خدام الدولة" بدعوى أن الأخير استفاد من تفويت بقعة أرضية بشكل "قانوني" بموجب مرسوم صدر عام 1995. ولم يشر الوزيران المسؤولان عن البيان – وهما تباعا محمد حصاد ومحمد بوسعيد- إلى أن المرسوم لم ينشر قط في الجريدة الرسمية وأنه استند على ثلاثة ظهائر صادرة إبان الاستعمار. كما نسيا أو تناسيا ربما أن يذكرا المغاربة بأن اسميهما وردا ضمن لائحة المستفيدين من البقع الأرضية!
مسارعة الوزيرين لنشر بيان مشترك في هذه القضية يثير تساؤلات عدة أبرزها ما إذا كان التنسيق الحكومي قد روعي في إصدار البيان وهل تمت استشارة الوزير الأول عبد الإله بنكيران في هذا الأمر تماشيا مع أبسط أدبيات العمل والتنسيق الحكومي؟ ثم هل من حق أي مسؤول حكومي مهما بلغت مرتبته أن يقفز على الدور المنوط بالقضاء المخول حصرا بالتحقيق والبث في مثل هذه القضايا؟
موقف رئيس الحكومة كان أيضا مخيبا للآمال بالنسبة لكثيرين، حيث امتنع عن التعليق على الواقعة وراسل أعضاء حزبه لأجل الامتناع عن التعليق أو إبداء الرأي حولها. الرجل الذي أعلن قبيل توليه مسؤولية التدبير الحكومي أن من بين أبرز أولوياته محاربة منظومة الفساد التي تنخر مفاصل الدولة المغربية، تبنى نهج المواجهة غير المباشرة ضد من أسماهم "العفاريت والتماسيح" -كناية عن الدولة العميقة أو الموازية كما يصطلح عليها في تجارب سياسية أخرى- قبل أن يعلنها صريحة مدوية أن "عفا الله عما سلف".
هذا الموقف أثار حفيظة متابعين كثر، فيما اعتبره البعض مؤشرا على جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة وربما إعلان فشل سابق للأوان أمام لوبيات الفساد المتوغلة في جسد الدولة المغربية.
نقطة الضوء الوحيدة التي وسمت التعاطي مع ملف "خدام الدولة" كانت في الفضاء الافتراضي الذي تفاعل منذ الوهلة الأولى إيجابا مع الملف |
أحد مؤشرات الارتباك السياسي أيضا التي تلت الكشف عن ملف "خدام الدولة" تمثل في التراشق الحزبي المبطن أحيانا والصريح أحيانا أخرى قبيل الاستحقاق الانتخابي المنتظر في السابع من أكتوبر المقبل. وأيضا في الانزلاقات الإعلامية غير المسؤولة التي تبنت لغة تحريضية غير مبنية على أساس في كثير من الأحيان، كما حصل مع صحيفة مغربية استخدمت في أحد مقالاتها ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم لغة "حربية" غير مسبوقة في المشهد الإعلامي الوطني وحذرت مما أسمته "التنظيم العسكري" و"ميليشيات" الحزب، وهي نبرة كانت لها أثار تدميرية على الوفاق والسلم الاجتماعي في تجارب سياسية أخرى إقليميا ولا تساعد بلا شك في إنضاج التجربة المغربية بل بالعكس تماما تفتح المجال أمام سيناريوهات الشيطنة والإقصاء المحدودة الأفق.
نقطة الضوء الوحيدة التي وسمت التعاطي مع ملف "خدام الدولة" كانت في الفضاء الافتراضي الذي تفاعل منذ الوهلة الأولى إيجابا مع الملف من خلال حملات فيسبوكية تجاوزت بجرأتها ومواقفها التعاطي الحزبي والرسمي المخيب. وهو ما يؤسس ربما لمرحلة جديدة يصنع فيها الوعي السياسي ومواقف الشارع ليس داخل الفضاء الحزبي المحدود والمحكوم بضوابط الولاء للحزب، أو من خلال الإعلام الرسمي المتحكم به والمأجور، وإنما أمام الشاشات الصغيرة التي تفضح الممارسات وتعرض جوانب تسعى السلطة ومن يدور في فلكها جاهدة لطمسها أو تشويه ملامحها.
تجربة "خدام الدولة" بما لها وما عليها لم ترسم قطيعة تامة مع الممارسات الحزبية والإعلامية التي ميزت المشهد السياسي في المغرب لعقود، وإنما استنسخت في مراحلها المختلفة بعض المواقف الرسمية والسلوكيات الحزبية والإعلامية التي دأب المغاربة على معاينتها مع التجارب الحكومية المتعاقبة. هذا المعطى يؤشر على أن مسار الانتقال الديموقراطي في المغرب قد فقد أو يكاد بوصلته في ظل حفاظ طرف أول متوارٍ ومتماسك على ما يبدو (أباطرة الفساد) على مكتسباته ومنظومة اشتغاله كما هي، وعجز طرف ثان (الأحزاب والإعلام) على تغليب الوطنية وحس المسؤولية على المصالح الحزبية والشخصية الضيقة، والارتقاء لمستوى تطلعات طرف ثالث (الرأي العام بالفضاء الافتراضي) الذي رفع سقف التوقعات وأضحى فاعلا في فضح ممارسات الفساد رغم تغولها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.