الجثث في الشوارع يقفز الناس فوقها هربا من الموت الذي يلاحقهم، والنكبة تجددت صورتها بهروب آلاف البشر من منازلهم التي قصفها الاحتلال فوق رؤوس ساكنيها، وتفرقت العائلات فارتقى بعضها شهداء وعاش الآخرون ليرووا الحكاية.
وسائل الإعلام لم تستطع توثيق كل ما حصل والإسعاف لم يتمكن من مداواة الجرحى وإخراجهم من تحت القصف، بقيت الجثث ملقاة على الأرض وتحت الأنقاض حتى وقت التهدئة التي كشفت عن لا إنسانية الاحتلال وبشاعته، وعندما توقف القصف لساعتين رأى الناس الشجاعية ملطخة بالدماء كما لم تكن من قبل.
كنت شاهدا على المجازر وواحدا من الذين عايشوا القصف لحظة بلحظة، وأدرك تماما أن كل الصور التي خرجت لا تعبر إلا عن جزء يسير |
بعد أسبوع من مجزرة الشجاعية، وبعد خروج مئات الصور التي توثق مجزرة دموية نفذها جنود الاحتلال "الإسرائيلي" بكل دم بارد، أطلت الإعلامية خديجة بن قنة عبر قناة الجزيرة وعيونها تعتصر حزنا وتسأل مراسلهم في غزة وائل الدحدوح "هل تعافت الشجاعية من حزنها وآلامها؟"
لن تنسى غزة فجر العشرين من يوليو/تموز 2014 حيث كانت الشجاعية تتلقف قنابل الموت من كل حدب وصوب، كنتُ شاهدا على المجازر وواحدا من الذين عايشوا القصف لحظة بلحظة وأدرك تماما أن كل الصور التي خرجت لا تعبر إلا عن جزء يسير من المجازر التي أسفرت عن استشهاد العشرات وإصابة المئات وتدمير آلاف الوحدات السكنية في منطقة تعتبر الأكثر كثافة في قطاع غزة وواحد من الأحياء الأكثر قربا للمنطقة العازلة بين غزة والاحتلال. (فيديو رسالتي يوم المجزرة)
الشجاعية لم تكن المنطقة الوحيدة التي تعرضت لمجازر بشعة، فخزاعة والزنّة ورفح وبيت حانون وتل الزعتر ومعظم مناطق القطاع تعرضت لقصف جوي ومدفعي مدمر أدى لارتقاء 2147 شهيدا وجرح 10870 من المواطنين الفلسطينيين ثلثهم من الأطفال والنساء، وتدمير 17132 منزلا بين تدمير كلي وجزئي وقصف أكثر من 171 مسجدا في مناطق متفرقة من القطاع. (المصدر: المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان)
دخلتْ غزة الحرب وهي تظن أن الحال سيتغير، فجادت بدماء أبنائها وقدمت التضحيات! ولكن بعد مرور 51 يوما من الاعتداءات لم يتغير الحال، وبعد مرور عامين على انتهاء الحرب لم يتغير الحال أيضا.
سكان غزة قدموا كل ما يستطيعون وصمدوا لسنوات على حصار ظالم وحروب قاسية |
فما زال الحصار محكما وما زالت المعابر مغلقة وما زال عشرات الآلاف من المواطنين بدون مأوى ولا زالت المشكلة الاقتصادية تعصف بالجميع حيث أن 40% من سكان قطاع غزة يقعون تحت خط الفقر (حسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان) وهي من النسب الأعلى عالميا، و97% من مياه غزة ملوثة (حسب سلطة المياه الفلسطينية)، هذا غير آلاف الجرحى الذين ما زالوا بحاجة للعلاج والخريجين الذين لا يملكون فرصة للعمل، ناهيك عن مشاكل الوقود والغاز والأدوية والمعدات الطبية ومواد البناء ومستلزمات عمل البلديات وأزمة الكهرباء المتفاقمة حتى أصبح أقصى طموحات الغزيين أن تأتيهم الكهرباء يوما كاملا بدون انقطاع.
سكان غزة قدموا كل ما يستطيعون وصمدوا لسنوات على حصار ظالم وحروب قاسية، والمقاومة الفلسطينية اجتهدت في الإعداد والتجهيز وبناء القوة العسكرية واستبسلت في الدفاع عن المدينة في أحلك الظروف، وحققت إنجازات عسكرية على أرض الميدان شهد لها بذلك الاحتلال "الإسرائيلي" نفسه، لكن ذلك لم يكف لتحقيق مطالب الفلسطينيين في قطاع غزة.
هل المشكلة في القيادات السياسية والفصائل الفلسطينية؟ هل الانقسام الفلسطيني الفلسطيني يقف حائلا دون ذلك؟ هل مشكلتنا تكمن في ضعف رسالتنا الإعلامية وطريقة تعاطينا مع الأحداث حول العالم؟ هل أننا غير قادرين على بناء تحالفات استراتيجية تناصرنا في قضايانا؟ أم لأننا لا نملك خطة واضحة نسير عليها ضمن إطار جمعي فلسطيني؟ أم أن الوضع الإقليمي لا يساعد في تلبية هذه المتطلبات؟
لعل الأسباب التي قادتنا إلى هذه المرحلة كثيرة وهذا يستدعي القيام بمراجعة شاملة لكل الحالة الفلسطينية والتفكير بطرق وحلول جديدة تخرج غزة من المعاناة التي تعيشها منذ عشر سنوات، إلى ذلك الحين يبقى الجواب: "الشجاعية لم تتعاف بعدُ يا خديجة!"
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.