"الساعة الخامسة والعشرون" أو الرواية المناسبة في الوقت المناسب:
"لطالما واظبت على قراءة رواية "الساعة الخامسة والعشرون" دون شعور بكلل أو ملل، تزامنت قراءاتي لها مع ظروف عصيبة مر بها العراق، قرأتها في مقتبل عمري، حوالي منتصف سبعينيات القرن العشرين، ثم أعدت قراءتها في الخريف الذي اندلعت فيه الحرب بين العراق وإيران في عام 1980، وعاودت قراءتها في أصعب سني الحرب في صيف 1987، ثم وجدت نفسي في رغبة لا ترد في قراءتها أثناء احتلال العراق للكويت في صيف 1990، وقرأتها بعيد الاحتلال الأميركي في عام 2003، وعلى خلفية أعمال العنف التي تعصف بالعراق تفاقمت بي حاجة ماسة لإعادة قراءتها، فأعدتها في صيف 2012، وكأنني أطلع عليها لأول مرة".
هذا مقتطف من تقديم كتبه الدكتور عبد الله إبراهيم لرواية "الساعة الخامسة والعشرون" للكاتب والراهب الروماني جيورجيو قسطنطين في طبعتها العربية الجديدة.
رحلتنا مع هذا الكتاب ستكون إلى رومانيا، البلد العجيب والمتفرد بأجوائه الساحرة، البلد الذي لا نتذكره إلا إذا تحدثنا عن أجواء الرعب في "ترانسيلفانيا" وقصر فلاد الولاشي أو أسطورة المذؤوب، وربما يتذكره أيضا "أتباع" العدمي الأكبر إميل سيوران، روماني الأصل، فرنسي الجنسية.
الجميل في رواية "الساعة الخامسة والعشرون" أنها رغم عدد صفحاتها الكبير تأخذك بساطة وعمق شخصياتها وتسارع الأحداث فيها، فلا تشعر بالملل وأنت تقرؤها |
رواية "الساعة الخامسة والعشرون" للكاتب والراهب الروماني الأرثوذكسي جيورجيو فرجيل قسطنطين (Constantin Virgil Gheorghiu)، صدرت لأول مرة عام 1949، بعنوان أصلي هو(La vingt-cinquième heure) أو (Ora 25) باللغة الرومانية، وقد منعت في أوروبا لسنوات طويلة (وهذا غريب صراحة).
ثم ترجمها للعربية فائز كم نقش، فصدرت طبعاتها المترجمة الأولى بين عامي 1964 و1987 عن دار اليقظة في دمشق، قبل أن تعيد دار مسكيلياني نشرها عام 2015، وهي دار نشر تونسية سعودية مشتركة، بدأت منذ عام 2011 مشروعا رائدا أطلقت عليه اسم "ألف راء: علامات في الروايات العالمية" يهدف إلى ترجمة أو إعادة ترجمة مجموعة من الأعمال الأدبية العالمية المميزة التي لا يعرف عنها القارئ العربي شيئا، أو على الأقل لم يطالعها أبدا باللغة العربية.
تتناول رواية "الساعة الخامسة والعشرون" سيرة مواطن روماني يدعى يوهان موريتز، اصطدم برجل شرطة بسيط في بلدته حاول التقرب من زوجته وحبيبته سوزانا، ولكن هذا الشرطي استطاع استغلال سلطته ونفوذه، وأيضا الأوضاع المضطربة التي مرت بها أوروبا قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، فقام بوضع اسم يوهان على لائحة المشبوهين أمنيا، لتبدأ رحلة المعاناة الغريبة والشاقة، التي صنفته في البداية كيهودي مشتبه به -رغم مسيحيته- قبل نقله إلى معسكر للمعتقلين اليهود.
حاول الهرب منه رفقة يهود آخرين إلى هنغاريا (المجر) فجرى اعتقاله واتهامه بالتجسس، فتم بيعه لألمانيا كعبد ضمن صفقة ضخمة ألزمت ألمانيا عن طريقها الدول المجاورة بتوفير عدد ضخم من الأيدي العاملة لدعم مشاريعها الصناعية.
في ألمانيا يتمكن طبيب نازي من إخراجه من المعتقل، معتبرا أنه سليل الجنس الآري المتفوق، فينضم للنازيين ويتزوج من ألمانية. ومع اقتراب نهاية الحرب يساعد بعض الفرنسيين على الهرب واللحاق بقوات الحلفاء، فيعتقله هؤلاء أيضا على اعتبار انتمائه لقوات معادية، قبل أن ينتهي كل هذا العذاب عام 1949 بعودته أخيرا إلى زوجته وأبنائه في رومانيا.
الجميل في رواية "الساعة الخامسة والعشرون" أنها رغم عدد صفحاتها الكبير (500 صفحة) فإن الأحداث متسارعة ولن تشعر معها بالملل، كما أن الشخصيات كلها تجمع بين البساطة والعمق، مما يشعرك بمصداقية العمل الذي ستدمنه بالتأكيد حتى آخر صفحة.
المتهم الأول هو الإنسان الذي تخلى عن إنسانيته، وانضم للمجتمع التقني الذي يحوِّل الإنسان إلى آلة، منخرطا في لعبة قذرة يتناوب فيها على دوْرَيْ الجلاد والضحية |
تقرأ هذه الرواية فتفهم أن المأساة لعنة لا تعرف شخوصها وتصيب الجميع، فهي مرتبطة بتخلّي الإنسان عن وجهه الإنساني، أو كما يقول الكاتب على لسان تريان: "لقد أشرف العالم على دخول ساعته الخامسة والعشرين، وهي التي لن تشرق الشمس من بعدها على الحضارة البشرية أبداً، والتي لن يحلّ بعدها يوم جديد، إنها الساعة التي سيتحول فيها البشر إلى أقلية عديمة القدرة على التفكير لا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها" فالمتهم الأول هو الإنسان، الذي تخلى عن إنسانيته، وانضم للمجتمع التقني، الذي يحوِّل الإنسان إلى آلة، منخرطا في لعبة قذرة يتناوب فيها على دوري الجلاد والضحية.
رواية تجعلك تطرح مع آخر صفحة فيها سؤالا مشروعا: "ماذا لو لم يقابل يوهان حبيبته سوزانا تلك الليلة، وركب السفينة المتوجهة إلى أمريكا كما كان مخططا له"؟
رواية عن مصير الإنسان وأزمة هويته، التي غالبا ما تكون قذارة الحرب سببا في تدميرها بكل عرقياتها وأديانها وأيديولوجياتها.
الساعة الخامسة والعشرون رواية متجددة الروح، وفكرتها عابرة للأزمنة والقارات، مما يجعلني أضيف للمقتطف الذي افتتحت به المقال أن الحاجة ماسة لقراءة هذه الرواية الآن ونحن نتابع ما يجري في سوريا، والعراق أيضا، واليمن، وليبيا، وقبلهما أفغانستان، والبوسنة، دائما نفس الحبكة ونفس الروح التي تدفع القارئ لطرح مجموعة من الأسئلة الوجودية العميقة.
ولمحاي الأعمال السينمائية المقتبسة من إصدارات روائية، فقد جرى تحويل هذه الرواية المميزة لفيلم من إنتاج فرنسي إيطالي يوغوسلافي مشترك سنة 1967، بطولة ممثل عبقري هو أنطوني كوين (نجم روائع مثل مدافع نافارون وأحدب نوتردام وفيفا زاباطا، بالإضافة إلى الرسالة وعمر المختار).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.