شعار قسم مدونات

حدث بتوقيت المذبحة

blog - khalil
 
(1)
14 أغسطس-الثانية عشرة ظهرا
مضت خمس ساعات حتى الآن، صوت الرصاص لم ينقطع، الوجع الذي في قدمي على إثر سقوط قنبلة الغاز عليها لم ينقطع، الغاز الذي أصبح مكونا من مكونات الهواء لم ينقطع، خط المشفى الذي أجلس أمامه ما زالت دماء الأجساد ترويه قطرات بعد قطرات.
 

أمام البوابة الخلفية للمركز الطبي أجلس عاجزا بقدمي الملتهبة ذات الرباط الأبيض المتسخ، العبارات الأعلى صوتا لكل أربعة حاملين جثة أحدهم "خرطوش ولا حي"، إن كانت الأولى فربما في حال وضع لك بعض المطهرات وطلب منك إخلاء المكان لغيرك، وإن كانت الثانية ففوق.. تحت.. قاعة 2.. قاعة 1.. هنا.. هناك، قطع في الرقبة، في الصدر، رصاصة في الفخذ، تفجير في الجمجمة لا تحتاج معه سوى قطعة قماش بيضاء تهال على جسدك، وفتاة لا تسمح لقطرة واحدة أن تتكور في عينيها تجري باتجاه جسدك وتكتب ما تتلقفه من حامليك على لاصق أبيض تضعه على ذراعك: اسمك وسنك وعنوانك وما تيسر لكي تُعرف به.
 

قال لي عندي مكان آمن.. نظرت له في حيرة صامته: لا عاصم اليوم

خمس ساعات والمشاهد واحدة.. ربما في الساعتين الأخيرتين جاء من يطلب منا إخلاء المكان، نحتاج إلى البلاطات التي تحتكم، الفتيات يكسرنها بأيديهن الرقيقة القوية.. الدامية، والشباب يحملونها إلى الصفوف الأمامية، صحيح.. ما حاجة الصفوف الأمامية إلى الحجارة طالما معهم البنادق والرصاص كما يفهم أولئك المستبشرون والمفوضون لفض ذلك الاعتصام المسلح؟ لا أعرف، ربما تكتيك ما!
 

(2)
14 أغسطس-الثالثة عصرا
انتصف اليوم.. لم ترتو الأرض بالدماء بعد، لم تهدأ نار الحرق والقتل بعد، ما زالت الصرخات تتهادى إلى آذاننا تترى، ما زالت المروحيات تحلق فوق رؤوسنا، والقنابل تتطاير في السماء، تتعلق الأبصار بها وترقب: ترى أين تهبط؟ وإلى أين نذهب إن كانت من نصيب محيطنا؟
 

حملني وصعد بي للدور الثالث، المكان مظلم والنوافذ مغلقة حتى لا يصيب الدخان من داخله، في لحظة هادئة يكتشف المرء منا أنه لم ينم منذ الأمس

لم أستطع احتمال ألم قدمي، ولم أتجرأ على الدخول للمستشفى وفيه من فيه ممن يحتملون أضعافا مضاعفة من ألمي، رآني أحد الشباب الأطباء وعرض علي مساعدة ربما عرف أنني لا أقوى على طلبها، نمت على بلاطه المتسخ بالدماء، أخذت حقنة مسكنة، كدت أفقد الوعي، لم تمر خمس دقائق ووضع تحت قدمي رجل بمخ متفجر، أدركت أن ألم الجلوس هنا أصعب من ألم قدمي نفسها!
 

مد لي أحدهم يده بعصا كانت في يده للتأمين، لم يعد لها أي قيمة في الدفع الآن، كنا نظن أن بعض البلطجية قد يهجمون علينا فندفعهم ببعض العصي والحجارة، أصبحت الآن عصا للتعكز عليها لا أكثر.. خرجت متعكزا، رآني صديق، قال لي عندي مكان آمن.. نظرت له في حيرة صامته: لا عاصم اليوم!
 

حملني وصعد بي للدور الثالث، المكان مظلم والنوافذ مغلقة حتى لا يصيب الدخان من داخله، في لحظة هادئة يكتشف المرء منا أنه -وكل من حوله- لم ينم منذ الأمس، ولم يذق طعم شيء منذ الفجر، حاولت أن أغفو قليلا، كنت أقاوم ذلك التعب بالأسفل خشية أن أفيق وجسدي غارق في الدماء، الآن غفوت ولكن لم تمر دقائق حتى أصيب من بجواري بطلق في قدميه، الرصاص نزل بعدها كالمطر محطما النوافذ، الأصوات تتعالى، الرصاص يُضرب من المروحية التي تقترب من المبنى، أخلوا المبنى حالا.
 

(3)
14 أغسطس-الرابعة عصرا
زحفنا على بطوننا والرصاص يتطاير من فوق رؤوسنا، أحسست بأن ساعة الموت أقرب لي من طرف السلم بعد أمتار، لكنني وصلت طرفه ولم تصبني رصاصة، على الدرجة الأولى كان يقبع رجل يمسك بآلي ويصوب نحو مبنى المرور ويطلق بين الفينة والأخرى أعيرة نارية، أشفقت عليه وحنقت منه، ما الذي تفعله رصاصات معدودة أمام كل هذا الإجرام، لكن ربما يتحجج كل هذا الإجرام بتلك الرصاصات المعدودة.
 

أسفل عربة البث ألقيت بجسدي المتعب، كنت أتمنى أن أغلق أذني لساعة واحدة فقط كما أستطيع أن أغلق عيني الآن، كان كل صوت ينطلق تصحبه عشرات الصور المتخيلة، هذا صوت خرطوش ربما أصاب عين صديق، ذلك صوت رصاصة ربما أصابت قلب حبيب، صوت متعدد ربما أصاب شخصين أو ثلاثة بجروح مختلفة، هذا أكبر هذا صوت عربة ربما انفجرت بعد أن اشتعلت فيها النيران، هذا أكبر وأكبر، رباه قنبلة قد خلت تحت العربة.. أكاد أفقد الوعي.
 

تهدأ الأصوات ربما دقيقة أو دقيقتين تسمح بتجول أحدهم في المكان يمسك بعلبة تمر ويوزع، يتذكر الناس أنهم لم يطعموا شيئا منذ الصباح، الكثير يتبلغ بشق تمرة فقط، ويعطي الشق الآخر لمن يقف بالجوار، ألمح الشيخ أنس من بعيد ينقل جريحا، صوتي أضعف من صوت الرصاص حتى أنادي عليه وأطمأن به، وقدمي أضعف من أن أمشي عليها بين الجرحى والأشلاء حتى أصله، يتوه في لحظة وسط الأجساد.
 

كل هذا يحدث وما زلت أنتظر تلك الساعة التي يعمل فيها صوت المنصة مرة أخرى ويصعد صلاح سلطان بصوته الأجش ويقول "تكبير" لقد اندحروا، كل هذا وأنا أتخيل أن الصفوف الأمامية عند طيبة وكنتاكي وبنزينة يوسف عباس ومدخل الطيران من ناحية الحرس وعمارة المنايفة، مؤكد لم يصل أحد بعد إلى قلب الميدان، سنظل هنا حتى صباح اليوم التالي، وساعتها سيتغير كل شيء.
 

(4)
14 أغسطس-السادسة مساء
انكسرت الشمس، ولم ينكسر الضرب والقنص، هدأت حدتها ولم تهدأ حمأة المعركة بعد.. يأتيني ناصح ويقول سيستهدفون عربة البث، عليك الانتقال لمكان آخر، أسأل: إلى أين؟ سنبحث عن ممرات آمنة.. ممرات، لا سنبقى هنا.. من، من سيبقى؟
 

لم أفهم نظرته لي حينها، انتقلت بالفعل إلى مكان يبعد عن موقعي ببضعة أمتار، وجدت حماما متنقلا ما زال يعمل، بالكاد استطعت أن أتوضأ وصليت الظهر والعصر، أسندت ظهري لباب قاعة (3) في مبنى رابعة، تلك القاعة التي حضرنا فيها من قبل دروس الدكتور العوا، كانت الشمس قبالة عيني دامعة دامية، يمر عليها الغبار والدخان مرورا سريعا وتعود بادية الحزن والأسى أمامي من جديد.
 

رأيت جنديا متمركزا على باب مستشفى رابعة، إذن نحن لسنا في قتال، نحن أسرى الآن، لقد انتهت المعركة

بعد دقائق كان أحدهم يجلينا للمرة الثانية، مشيت بضع خطوات لتحدث أكبر صاعقة لي في هذا اليوم، أرى لأول مرة منذ الصباح جنديا ماثلا أمامي مدججا وملثما، التفت يمينا لأرى جنديا آخر متمركزا على باب مستشفى رابعة، ينظران إلينا ببرود، إذن نحن لسنا في قتال، نحن أسرى الآن، لقد انتهت المعركة.
 

بمجرد أن أصبح المستشفى خلفنا رأيت للمرة الأولى إحدى المدرعات المشاركة في هذه المعركة منذ الصباح، لم تصب بخدش، جديدة أول يوم تطأ الأرض هو يومنا هذا، لا يوجد جندي واحد يظهر منه سنتيمتر واحد، الكل يلفه السواد كمدرعاتهم بالضبط، في صف طويل خرجت متعكزا على عصاي، أمامي شيخ ذو شيبة لم يحتمل منظر الجندي الآمر بالإسراع في الحركة فصرخ في وجهه "يا قتلة، منكم لله.. حسبي الله"، تحرك الجندي وشد أجزاء سلاحه ووجهه لصدره فورا.
 

(5)
14 أغسطس-أذان المغرب
أطلق الرجل طلقته في الهواء، وبمؤخرة بندقيته وخز الشيخ في صدره وحثه على المضي من دون كلمة، لوهلة ظننت أن من يفعل هذا مجرد رجل آلي ليس من هنا مطلقا، لم يكن عقلي قادرا على استنتاج أي شيء آخر ساعتها.

نحن نسير الآن في الممرات الآمنة، هكذا قيل لنا، أصوات نحيب الأمهات والأطفال، والجرحى المستندون على من بقي منه فضل قوة من الشباب، ممر ضيق أفضى بنا لشارع أوسع قليلا، أحد الشوارع الخلفية ما بين رابعة و"جنينة مول" على مر البصر وجدنا خطوط الإمداد، نقاط إسعافية صغيرة وشباب معهم مياه وأدوات حمل، وسيارات خاصة تنقل المصابين.
 

في هذه الساعة الأخيرة، مع أذان المغرب، النهار ينزع نزعه الأخير، المئات يسيرون بخطى وئيدة.

يوم ما سيعود اللاجئ إلى الوطن، إلى الدوحة بعد أن تقتلع منها غربانها

سواعد الشباب كلها دامية، وجوه النساء كلها دامعة، الطائرات ما زالت تحلق فوقنا، نسير وحدانا وزارافات منكسري النفوس، خائري القوى، همهمات رجال، ونحيب إناث متقطع، أنات جرحى، وزفرات تشهق بأجساد على جانبي الطريق تعلن رحليها مع آخر خيوط النهار.
 

تغريبة أخرى كالتغريبة الفلسطينية في مشهد من المسلسل، نازحون من الأرض، نازحون من الوطن، نازحون من الحلم بعد أن ضعضع الحلم أجسادهم واستباح أرواحهم.. نازحون ومن بعد ذلك لاجئون على بصيص الأمل الواهن، أو اليقين المكنون بأن يوما ما سيعود اللاجئ إلى الوطن، إلى الدوحة بعد أن تقتلع منها غربانها.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان