شعار قسم مدونات

من وحي الألم…

blog - fair

العدل قيمة مطلقة، لا تعرف انحيازا أو مداراة، يرتفع بها شأن أي أمة، وبضياعها تنهار، رفعت رايتها الثورات وحركات الإصلاح والتحرير على مر العصور، حيث تضمن بها انحياز القوة الجامحة عند المظلومين لتغيير واقع القهر البغيض، تلك القوة التي تتناغم تماما مع فطرة الإنسان الحر السوي في رفض الظلم، أيا كان نوعه أو مصدره، تلك الفطرة التي أودعها الخالق سبحانه فينا: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا".

 

وسواء أكان حامل لواء التغيير والإصلاح صادقا في دعوته أم مدعيا يبتغي اجتماع الأنصار من حوله، فلا غنى له عن العزف على وتر الحرية والعدالة الاجتماعية، فهو يدرك يقينا أن حالة الاحتقان التي يعيشها الإنسان جراء القهر والظلم كفيلة بأن تولد في داخله الدافع المحرك لإرادة التغيير، وهذا تماما ما تحتاجه الشرارة الأولى لأي ثورة، وأي دعوة إصلاح وتحرير.

 

أما استمرارية الثورة، وقدرتها بحق على تحقيق قيمة العدل المطلقة، فهذه شأنها في صدق الإنسان مع ذاته أولا، ومع من حوله ثانيا، جنديا كان بين الصفوف، أم قائدا يعتلي المنابر وتجتمع لسماعه الحشود، فبقدر إدراكه لقيمة العدل مع ذاته، وبقدر حرصه على تحقيقه في تعامله مع غيره، يكون قادرا على استكمال دربه في ثورته.

 

فهي إذن المصداقية والشفافية في إرادة العدل في كل شأن، وفي كل حين، سواء كانت تبعاته لك أم عليك، وليست الإنتقائية والإزدواجية، فالعدل لا يتشكل وفق المصالح الشخصية، ولا ينحاز وفق جنس أو لون أو انتماء أو دين، ولا تبعا لطبقتك الاجتماعية، لكنه مع ذلك يحتاج للقوة التي تحققه وتضمن بقاءه.

 

تلك القوة التي تتطلب بادئ ذي بدء الصدق في تحقيق العدل المطلق الذي لا يحابي أحدا، فالقوي والضعيف، الكبير والصغير، الذكر والأنثى عنده سواء، ومن منا لا يبتغي عدلا يحقق له حقا مشروعا، ومصلحة مقصودة، سواء في المجتمع الصغير من حولنا، في بيتنا، وفي الجوار، في أكاديميات العلم، وفي ساحات العمل، في كل شأن من شؤننا لقيمة العدل نصيب، فهل أنت ذلك الذي يرتفع ضجيجه فقط عندما تدرك أن مصلحة لك محققة بالعدل الذي تنادي به، ليغيب مرآك وتصبح سكناتك بادية عندما يكون ذاته ذلك العدل الذي تدعي حرصا منك على إحقاقه يجافي مصالحك الضيقة، ليعطي حقا مشروعا لغيرك لم تتسع له أنانيتك وغطرستك!

هل تدرك حقا أن تحصيلك لأي حق لك تدعيه وتنادي به عدلا وإنصافا لك ولوجودك، مرهون بصدقك لتحقيق ذات الحق تحت مسمى العدل لغيرك وحتى خصمك! فكما تدين تدان، بل إن الأمر يمتد عند تغلغل الإنتقائية والإزدواجية في تحقيق العدل وفق مصالحك الشخصية إلى انقلاب حالك من مظلوم إلى ظالم، وبدل مكانتك المشرفة بين صفوف حاملي لواء الإصلاح والتغيير، إذا بحالك تتدنى لمستوى كل ظالم ومعتدي.

 

فحيث قد حرمت غيرك من حقه فأنت تجاوزت ظلمه إلى الإعتداء عليه والإعتداء على منظومة العدل الكاملة التي تتغنى بها وفق هواك وتبعا لمبتغاك، وسواء أكنت إنسانا بسيطا يعيش في بيئة اعتيادية تتشارك مع من حولك مجريات حياتك اليومية، أو كنت مصلحا اجتماعيا أو داعيا رافعا شعار الإصلاح والتغيير، فإنك لن تحيا حياتك البسيطة السوية بود ومحبة مع من حولك من غير قيمة العدل لك ولغيرك، ولن تمتلك تلك القوة اللازمة لاستمرارية دعوتك من غير صدق القائد والجندي فيها على السواء في إرادة قيمة العدل المطلق اتفق مع هواك أو خالفه، فالجميع أمام العدل سواسية.

 

فلتوقظ تلك الفطرة السوية في أعماق إنسانيتك، ولتتذكر ذلك الشعور الجامح والغضب العارم الذي يعتريك عند إحساسك بالظلم عندما تكون بالفعل صاحب حق مضطهد ومسلوب، ترفع يديك إلى السماء تشكو الظالم إلى الخالق سبحانه، ليأتيك الوعد الإلهي بالنصرة "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين" وتمنى دوما ألا تكون أنت ذلك الظالم. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.