شعار قسم مدونات

مطر من نار

blogs - gazap
ليلتين .. ومدفعية الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة على تخوم المنطقة الشرقية لقطاع غزة؛ تمطر حيّ الشجاعية بقنابل ضوئية متوالية، كانت تنذر بليلة دموية بلون السماء الحمراء المضاءة غضباً من مدفعية المحتل، ولتخترق صمت وسواد الليل بتبجح مطلقيها..

وسط غموض يلف الأجواء، وصمت مخيف، فلا أحد كان يتوقع ما تخبئه لهم قيادة الاحتلال. اتصالات تتوالى على هواتف المنازل برسالة مسجلة من جيش العدو تهدد وتتوعد بضرورة إخلاء المنطقة والنزوح إلى مركز المدينة، وأي مركز يبتعد عن منطقة الحدث المتوقعة بأقل من ألفي متر؟.. ومع ساعات الفجر الأولى ينتهي كل شيء .. فقد بدأ النهار ينجلي ولم يعد لقنابلهم أي جدوى ..

قذائف تتوالى بالهطول بصوت لم نستطع وأهالي الحي أن نتناساه حتى بعد مرور عامين على المجزرة

ليلة العشرين من تموز لعام "2014" بدأت الحكاية، قذائف المدفعية تمارس جنونها الإجرامي بشكل عشوائي، تتساقط كمطر لكنه من نار، لتزيد من أجواء تموز الحارة -التي لا تخفى على صيف غزة- ولتصب جحيم حممها على أجساد غضة من لحم ودم، ومبانٍ صماء أزعج شموخها الاحتلال لأنها تشهد لقاطنيها بصمودهم الأسطوري على مر التاريخ.

ليلة لم يغمض لنا ولا لأهالي الحي جفن منذ وقت صلاة العشاء التي لم تُقم في المساجد مع أن الوقت كان في شهر رمضان مع انقطاع مبكر للتيار الكهربائي؛ ليلة طالت بشدتها وبؤسها على الجميع لدرجة أن أياً منّا لم يستطع أن يغادر مكانه الذي يجلس فيه، ظاناً منه أنه سيمنحه الأمان والسلامة إذا ما أخطأت قذائف العدو طريقها وسقطت فوق رأسه منهيةً معها حياته ..

استمر مسلسل الرعب الليلي لساعات طوال -مع أن ليل الصيف قصير- فقهنا بها قوله تعالى إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا. قذائف تتوالى بالهطول بصوت لم نستطع وأهالي الحي أن نتناساه حتى بعد مرور عامين على المجزرة، أصوات انفجارات متتالية قيست لاحقاً بأنه في كل دقيقة كان هناك قذيفة تتساقط علينا.. تصم آذاننا بأصوات انفجاراتها المهولة، ولا ندري أين تسقط؟ أو إلى أين تذهب مكوناتها القاتلة؟

وفي كل لحظة من الليل أصبحنا نستشعر الخطر بدرجة أكبر، فقد باتت الشظايا المتفجرة ترتطم بباب الغرفة التي كنا نحتمي بها؛ ظانين أنها ستحمينا من الخطر الخارجي، وهكذا أصبح مغادرة الغرفة أو التحرك من المكان سيضطرك إلى دفع الكثير لاسيما حياتك، (حتى الذهاب لقضاء الحاجة كان من المستحيل) جراء هذه القذائف جالبة الموت لنا من خلف الباب…

وما زاد الطين بِلة الأخبار الواردة من المنطقة المنكوبة والتي استطاع السكان المكلومين أن يوصلوها لخارج حدود الشجاعية تزامناً مع عدم مقدرة الطواقم الطبية والإعلامية الدخول لتغطية الحدث لهول ما كان يجري وقتها، مما اضطرني حينها هنا إلى تغيير وضع الهاتف الجوال إلى الصامت، لأن رنينه أصبح مقلقاً أكثر من كونه وسيلة للاطمئنان لأنه لم يتبق أحد لم يتصل طوال فترة الليل ليطمئن علينا، ويعرف ما الذي يحدث! .. وماذا كان عليّ أن أخبرهم سوى "أننا بخير والحمد لله" .. أعتقد أنني كنت أواسي نفسي فلا أدري أي نوع من الخير كان الذي يجري..

بعد ذلك اكتشفنا أن الأخبار العاجلة التي كانت تتوارد عبر الإذاعات المحلية تحمل أخباراً مأساويةً خاصة مع تردد اسم العائلة بالأخبار أكثر من مرة سواء ببث مناشدات عاجلة لإنقاذ الجرحى أو جثث الشهداء، أو الإخبار بأن ما يجري هو عبارة عن إبادة جماعية لمنطقة بأكملها .. ونحن حتى هذه اللحظة كنا نجهل ما الذي يحدث تماماً ولا للمنطقة بأكملها، حتى المعلومات التي كانت ترد لرجال المقاومة كانت شحيحة للغاية مما أقلقنا بدرجة أكبر، خاصة بعد قيام طائرات الاستطلاع الخاصة بالعدو بإطلاق نار متقطع بين الفينة والأخرى على المباني وفي الطرقات، لنعتقد أنها اشتباكات بين رجال المقاومة والعدو في الخارج.

ضوء أحمر أومض بشدة مع صوت انفجار القذيفة وشظاياها المتناثرة، فتشعر أنها لا تترك شيئاً إلا وله نصيب منها

ومع هذه الظنون أستطيع أن أقول أن لا وجه للحياة كان أمامنا سوى اللون الأحمر القاني، مصحوباً بصوت انفجارات ضخمة لم تعد مسامعنا قادرة على احتماله، وهذا لا يعني إلا أننا قد هزمنا وأن العدو يسير في شوارع الحي مخترقاً كل حصون المقاومة المتقدمة، وهذا يعني أيضاً أن جميع المجاهدين في الميدان قد قتلوا جميعاً وأن مصيرنا المحتوم سيكون قتلاً جماعياً كعادة المحتل في هذه الحالات وبدأت تلوح في الذاكرة مجزرة دير ياسين، كفر قاسم، صبرا وشاتيلا و .. و…

ونحمد الله في عليائه أن ظنوننا خابت وأن مقاومينا كانوا بخير، لكن لهول ما يجري أصبح الواحد منهم يتعامل وفق الميدان وما يتطلبه منه لا وفق أوامر قيادته لخطورة الموقف، وما هذا الهجوم الجنوني الذي كان من الاحتلال إلا رد فعل للمقاومة الشرسة التي جابهته من نقطة الصفر، بل من خلف خطوط مقاتليه المجرمين.

حان موعد السحور.. وأكاد أجزم أن أحداً لم يتناول حتى شربة ماء لينوي صيام اليوم التالي، يكفي أن نستذكر أن ما يقارب من 30 مسجداً في الشجاعية بأكملها لم تؤذن لصلاة الفجر ربما لأول مرة منذ مئات السنوات لتعلن دخول وقت الصيام، لم يعلو لشيءٍ صوت سوى صوت القذائف ضاربة بعرض الحائط كل قوانين الإنسانية وتعاليم البشرية..

وهنا قاربت الشمس أن تمد أولى خيطوها الذهبية على الدنيا تنذر بقدوم النهار كاشفاً سترَ ما خبأته حلكة الليل، لنسرق أنفسنا من الخوف المسيطر عليها منذ ساعات لنصلي الفجر ممسكين بأيدي بعضنا بفرائض جديدة لصلاة أردنا أن نؤديها خوفاً من أن تعاجلنا قذيفة تنهي حياتنا دون قضائها.. لا أذكر أنني قرأت شيئاً أو سبحت الله في هاتين الركعتين اللتين تمتا ببطء شديد وخوف أشد خافضين رؤوسنا بسجود أوقف الزمن حولنا مع أول قذيفتين تصلان حدود بيتنا..

ضوء أحمر أومض بشدة مع صوت انفجار القذيفة وشظاياها المتناثرة تشعر أنها لا تترك شيئاً إلا وله نصيب منها، مياه بدأت تنهمر بشدة بعد اختراق شظية لأحد خزّانات المياه على سطح البيت، لذا لا تتعجبوا إن قلت أني لم أقرأ شيئاً في الصلاة طالما أن أدائها كان في جو هكذا..

ما بين القذيفة والأخرى بضع ثوانٍ قمنا بالنزول بها على عجل إلى الطابق السفلي ننتظر باقي مصيرنا المجهول قبل سقوط القذيفة الأخرى، ويا ليتها لم تسقط صراخ وعويل تبع صوت انفجارها الضخم بالقرب من البيت وسريعا ما تكشّف لنا أن أحد الجيران أصيب بشظايا، وصلت سيارة الإسعاف بعدها لنقل المصاب الذي لم ينتظر إسعافه وارتقت روحه، لأنه ومع ساعات النهار الأولى استطاعت بعض سيارات الإسعاف من الدخول لإجلاء المصابين وجثث الشهداء التي باتت في الطرقات وعلى الأرصفة طوال الليل.

بدأ المسعفون بمجرد وصولهم بالصراخ مناشدين أهل الحي أن من عنده مصاباً، كبير في السن، أطفال، نساء، أن يخرجهم لنقلهم خارج منطقة الحدث.. وأي عدد سيتسع في سيارة إسعاف في حي مكتظ بالسكان كحي الشجاعية؟
انتهى الجزء الأول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.