شعار قسم مدونات

رحلة مدون.. لم أجد الوقت الكافي لأحزن

تونس
لم يكن مقدرا لي أن أعيش حياة هادئة منذ راودني ذلك الحلم.

كنت في الثالثة والعشرين حين عشت ما اعتبرته يومها ولا أزال أسوأ أيام حياتي، ١٥ يوليو/تموز ٢٠١١. لم أنم ليلتها، فبعد حديث طويل مع حبيبتي التي هجرتني لوهلة، جمعتني محادثة سكايب مع من بقي من شباب ثورة يناير.

كنا نجهز لتحرك اعتبرناه ضروريا وحاسما، كيف لا وقد انحرف المسار، وزراء بن علي يتصدرون المشهد ويكوّنون الحزب تلو الآخر، أحزاب "مناضلة" تتصارع وتتسابق استعدادا للانتخابات، بعيدا عن الثورة وأهداف استأمناهم عليها ذات اعتصام بساحة القصبة.
 

أمطرتنا قنابل الغاز المدمع بمجرد وصول جمعنا، وأخذت وحدات التدخل في ملاحقتنا واحتجاز من عجز منا عن الفرار من قبضتهم

"حمدة.. حمدة.. فيق وصلنا"، لم يرد صديقي أحمد أن يزعجني في طريقنا إلى الجامعة، ولكنه أيقظني بصعوبة عند وصولنا لمعرفة نتيجة دورة التدارك.. دورة التدارك التي تعودتها وتعودت اجتيازها، واختلف كل سنة سبب التحاقي بها، وكانت ثورة ٢٠١١ الحدث الأبرز عامها، كما اختلفت النتيجة هذه المرة لاختلاف نظام احتساب النقاط.

صدمت حقا برسوبي لأول مرة في حياتي الدراسية، وأنا الذي عود والديه على اعتلاء المناصب وحضور حفلات التشريف. ذهلت ولكنني لم أجد الوقت الكافي لأحزن، فقد تتالت الاتصالات من الشباب، خاصة علي وزياد.. "أين أنت؟ وصلت جامع الفتح؟".. "ليس بعد.. أنا قادم.."
 

كان جامع الفتح إحدى النقاط الرئيسية التي تنطلق منها التحركات وسط العاصمة، سواء باتجاه المسرح البلدي وشارع الحبيب بورقيبة، أو باتجاه ساحة الحكومة بالقصبة كما كان مقررا يومها.. وفي طريقي إلى الساحة مررت بأزقة المدينة العتيقة الجميلة والضيقة، حيث كانت الطرق الرئيسية مغلقة من قوات الأمن. وتفاجأت رفقة من كان معي من نساء ورجال بحاجز رهيب عند مركز الشرطة بباب البنات.

أمطرتنا قنابل الغاز المسيل للدموع بمجرد وصول جمعنا، وأخذت وحدات التدخل في ملاحقتنا واحتجاز من عجز منا على الفرار من قبضتهم. كنا في كر وفر، نجتمع وتفرقنا الغازات، نغترب وتلم شتاتنا الآهات، كما هي الحياة.
 

كانت بعض الفتيات من سكان الحارات يوزعن الحليب والكولا على الشيوخ والنساء لإبطال مفعول الغاز وتجنب الاختناق. اغتنمت الفرصة لأخفف من حدة عطشي، واتصلت بعلي الذي أكد لي أنه داخل مسجد القصبة وأن مدى القنابل تجاوز صحن الجامع ليصل بيت الصلاة.

أكملت معه وانتبهت حينها لمكالمتها فاتصلت بلهفة.. قالت: "أين أنت؟ ما كل هذا الضجيج بجوارك؟". سكتّ لبرهة باحثا عن رد، لكنها عادت وقالت: "مظاهرة.. كالعادة؟ ألن تكف عن هذا الهراء؟".. تبادلنا الاتهامات.. وتشبث كل منا بموقفه.. وانقطع الخط.. انسحبت بهدوء وتسللت من طريق جانبي محاولا الوصول إلى المسجد.. وفشلت كل محاولاتي.. لأتوقف أخيرا أمام جامعة ٩ أبريل..
 

فوضى انتهت كما انتهى كل حراك وقتها بسكوت وسكون، وخذلان أحزاب خيرت منهج الإصلاح والمحاصصات فلجمت قواعدها

كنا ندرك أثناء حديثنا مع قوات الأمن أن هذه الفئة من المواطنين لا تملك من الصدق إلا القليل، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتعليمات تراتبية. فقد عهدناهم وألفناهم مرات ومرات قبل ذلك.. يتعاطفون، يماطلون ويراوغون دقائق بل وساعات حتى تأتي الأوامر بالهجوم لتجدهم أشد وحشية مما يبدون عليه، أو بالانسحاب فيتحسرون.. إلا من رحم ربي.

كان النقاش محتدما حول حرمة المسجد وما فعلوه، واذا بهاتفي يرن ثانية "حمدة خشتالي..؟" "نعم.. من المتصل؟" كان منتجا بقناة الجزيرة يطلب مني الالتحاق بالأستوديو للحديث عن اعتصام القصبة/٣ كما عنونته صفحات "اتحاد صفحات الثورة" وغيرها من الشبكات الفاعلة على منصات التواصل الاجتماعي.

ألح على وصولي قبل رأس الساعة لأدرك النشرة الرئيسية، وطلب مني وصف المشهد الميداني، فحدثته عن حريق بمركز التكوين المهني قرب وزارة الدفاع لم أسمع خبره بأي وسيلة إعلام إلى يومنا هذا.
 

حاولت إخفاء الهزيمة أثناء مداخلتي، فقد كنت أشعر بالخذلان؛ خذلان شباب سئم ومل فقد طال الأمد واشتد الحر، ولم تأت هباته المتتالية بنتائج تذكر، وكان آخرها الفوضى التي حصلت إثر تسريب لوزير الداخلية فرحات الراجحي تحدث فيه عن حكومة الظل وتحكّم ثلة من رجال الأعمال في مفاصل الدولة.

فوضى انتهت كما انتهى كل حراك وقتها بسكوت وسكون وخذلان أحزاب خيرت منهج الإصلاح والمحاصصات فلجمت قواعدها. أذكر أنني كنت في أسوأ حالاتي رغم ما بدا مني من شجاعة إثر مطالبتي على الهواء باستقالة الحبيب الصيد. خرجت من الأستوديو، توجهت نحو مأوى قريب من ساحة الجمهورية لأستلم دراجتي النارية وأعود مجددا لساحة القصبة.
 

علي: "أين كنت؟".. "أنهيت للتو مع قناة الجزيرة.. كنت هناك عندما اتصلت بك لأتأكد من الحالة الصحية للمتظاهرين داخل المسجد". تعلمت يومها أحد أهم قواعد التحقق من الأخبار.. ألا وهي تعدد المصادر، والتي لا تكفي لوحدها للتأكد من صحة المعلومة، فقد تريث محمد البقالي ولطفي حاجي قبل نقل خبر وفاة أحد المتظاهرين اختناقا داخل المسجد.

رغم أن علي أكد ذلك أثناء مكالمتي له وكان في عين المكان. "الحمد الله.. لقد نجت تلك العجوز.. وتم إسعافها بمستشفى عزيزة عثمانة".. أكملت حديثي مع علي واتجهنا سويا نحو أحد المطاعم الشعبية لنتناول وجبة الغداء، لن أنسى أبدا تلك الوجبة.

حدثني علي عن إحباطه، ولم يخف نيته في مغادرة البلاد. قال بأنه تعرف على مصورة فرنسية ويطمع في تطوير علاقته معها لتكون جسر عبوره إلى الطرف الأوروبي. قاطعنا هاتفي مجددا، كان رقم منزلنا.. أخيرا أحدهم يتصل للسؤال عن النتيجة، لكن والدتي صعقتني بقولها باكية "لقد ظهرت نتائج التحاليل.. ماهر مريض بالسرطان..!".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان