بعد أيام من السب واللعن والقذف والطعن، وبعد ساعات وساعات من الردح الإعلامي ببرامج "التوك شو" ظهر فيلم "العساكر" للنور لينهي حالة من الجدل والتربص، وتبدأ أخرى من مصمصة الشفاه أو اللامبالاة.. أو الانتقام.
ضجة كبرى سبقت عرض الفيلم على شاشة الجزيرة، لازمها وصلات من الغثاء الإعلامي المصري وهرتلة من رجال النظام العسكري، وصمت من القائمين على الجزيرة، اللهم إلا من تقرير على الموقع قبل ساعات من عرض الفيلم، ربما كان موجزا مختصرا لكنه كان مفيدا عنيدا.
من يهتم باختراق جيش لم ينتج سلاحا منذ الخمسينيات وتحول إلى شركة تجارية احتكارية منذ الثمانينيات؟ |
للمرة الأولى منذ توقف برنامج "البرنامج" للساخر باسم يوسف تترقب قطاعات كبيرة من المصريين برنامجا بهذه اللهفة، وتتحول آلاف مؤلفة من أجهزة التلفاز في مصر على قناة واحدة في وقت واحد لمشاهدة برنامج بعينه.. إنها تدق التاسعة مساء بتوقيت القاهرة.. وكل الأبصار شاخصة ولقناة الجزيرة ناظرة.
مبدئيا لم أكن وقطاع كبير من الشباب بنفس اللهفة والشوق لمشاهدة ما في جعبة «عساكر الجزيرة» بعد أن رأينا خلال سنوات ماذا في جعبة «عساكر كامب ديفيد» وإن كان «عساكر الجزيرة» يتناول المجندين إجباريا من قبل الدولة، فإن شباب الثورة عاينوا وجربوا استبداد وفساد قادة الجيش المختارين بعناية ورضى وموافقة كامب ديفيد.
لم يأت فيلم «العساكر» بأي جديد يذكر، بل يمكن القول إنه كان قديما يعاد، فلا هو انفرد بمعلومة يجهلها الشعب المصري، ولا قدّم تفصيلة لا يعرفها الشباب، فلما كانت كل الضجة السابقة للفيلم؟
على المستوى الشخصي، قد تكون الفائدة الوحيدة من الفيلم، وهي ليست جديدة في مغزاها أيضا، معرفتي بإسم جديد من أسماء الأمريكيين المشرفين على مقاليد الأمور في الجيش، وهو نورفيل دي أتكين، العقيد المتقاعد بالجيش الأمريكي ومدير البرامج العسكرية بمكتب التعاون العسكري في مصر 1981 – 1983، لأضيفه إلى مراجعي وقائمة كتابي الذين قد أقرأ لهم مستقبلا، أما كلامه عن الجيش المصري فأمر معروف أيضا.
نعلم علم اليقين أن الجيش المصري بعد كامب ديفيد تحول إلى مجرد شركة رأسمالية احتكارية تتاجر في كل ما يدر مالا، واقتحم كافة الصناعات عدا صناعة السلاح.
أما عن مستوى وكفاءة المجندين داخل الجيش المصري، وهم مصدر قوة أي جيش نظامي فحدث ولا حرج، يكفي فقط أن نشير إلى تعليق الجنرال كالفين وولر قائد مسرح عمليات حرب تحرير الكويت على أداء الجيش المصري في حرب تحرير الكويت، وهي الحرب التي أرسلت مصر فيها نخبة النخبة من قواتها.
الجنرال وولر، وصف أداء الجيش المصري بجملة قاتلة كالرصاص حادة كالسيف، مهينة بشكل غير متوقع حين قال: «يمكن لأي (…) منهكتين القيام بالمهام التي أُسندت إليهم» لكنها الإهانة التي لم يقشعر لها أبدان أشاوس الوطنية المحبين لـ«خير أجناد الأرض»!!
الجنود أو العساكر شأنهم شأن مصر كلها باتوا ملكية خاصة لقادة جيش كامب ديفيد وجمهورية ضباطهم |
«طلبة، دفعة، عصفورة، نمرة، سيكا» تلك هي الأدوار التي يتدرب عليها الجنود في الجيش المصري، وهي مصطلحات يعرفها القاصي والداني في مصر، من التحق بالجيش أو من أُعفي منه، فلا الجنود يتدربون بشكل يتماشى مع دولة تنفق مليارات سنويا على التسليح، ولا الضباط يهتمون بزيادة كفاءتهم القتالية، في حين الشغل الشاغل للقادة في المؤسسة العسكرية هو الاستحواذ على مصر ونهب ثرواتها وقتل شبابها.
إذن، فما المزعج في فيلم الجزيرة الذي ارتآه النظام العسكري والمحسوبين عليه؟ ربما يكون سر قلق قادة الجيش من الفيلم، هو خوفهم من أن يفسد عليهم «عبيدهم» من المجندين، إن جاز لنا التعبير، وخشية من نجاح الفيلم في إثارة كرامة المجندين التي يخلعونها قبل دخولهم فترة التجنيد.
وكرد متوقع من الحكم العسكري، ربما يؤدي الفيلم إلى مزيد من القمع والتعسف ضد المجندين، وأخشى أن قادة الجيش سينتقمون من كل مجند يضبط بحوزته هاتف بكاميرا.
كان من الممكن أن نعتبر حصول الجزيرة على لقطات مسربة من داخل معسكرات الجيش فاجعة كبرى، إذ أنها تكشف سهولة اختراق الجيش، لكن من يهتم باختراق جيش لم ينتج سلاحا منذ الخمسينيات وتحول إلى شركة تجارية احتكارية منذ الثمانينيات. من يهتم باختراق جيش يُعين قادته من قبل أعداء الأمة والشعب منذ كامب ديفيد البغيضة.
فيلم «العساكر» لم يضف جديدا، لكنه أعاد الحديث عن حقيقة من شدة بديهيتها أصبحنا لا نراها، أو نتعايش معها، وهي أن المجندين أو الجنود أو العساكر شأنهم شأن مصر كلها باتوا ملكية خاصة لقادة جيش كامب ديفيد وجمهورية ضباطهم، ولا كرامة لجندي أو حرية لشعب أو انتصار لثورة أو ولادة لجمهورية مصر الثانية إلا بزوال جمهورية الضباط من الوجود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.