ما زالت الساعة السابعة صباحاً، جميعَ مَنْ حَوْلي يَركُضون بشكلٍ عشوائيّ ومنهُم مَن يَحمِلُ الجَرحى، دُوارٌ في رأسي وصوتَ صراخِ الرَّجُل " قوموا اليهود اقتحموا الأقصى"، ما زال في رأسي الكثيرَ من الأسئلة.. ماذا يَحصُل؟ كَمِ السَّاعة؟ رائحةُ غازٍ قاتِل..!
الكثيرَ من الأسئلة والدوار ما زال يَتملكُني، صَوْتُ القنابل والرصاصُ المطاطيّ اجابَ عن جميعَ أسئلتي. كانت المرة الأولى التي اشهدُ فيها اقتحاماً للمسجدِ الأقصى، دائماً ما كنتُ أسمَعُ الأخبارّ عَنْ اقتحاماتٍ مُتعددةٍ ويومية، اشتباكاتٌ وجرحى بالعشراتْ، وصلواتٌ تلموديه داخل الساحات، قمعٌ للمرابطينِ وابعادات، وتَبُثُّ لنا المحطات التلفزيونية صورُ الاقتحام، لكن الواقع يختلف كُلياً!
صَوْتُ القنابل الصوتية وقنابل الغاز المسيل لدموع، الرصاص المطاطيّ والإسفنجيّ ولثامَ المُرابطين وحجارةَ السجيل، ما زالت ذاكرتي تأبى أنْ تستوْعِبَ كَمّ مِنَ المشاهدَ الواقعة أمامي وما هيَ الأمور الواجبة عليَّ فعلها؟ بما أنَّي أعيشُ اللحظةّ للمرَّةَ الأولى وأخوضَ التجربةَ بذاكرةٍ نَصْفُ نائِمة، ما هو واجبي وما هي مهامي للدِّفاعِ عَنْ حبيب قلبي؟
لم يتحزَّب أحدٌ ولم يَصرِخ أحدٌ باسمِ فصيلٍ ولا حركة، فكانَ الجميعُ يهتفونَ بحنجرةٍ واحده يساندونَ بعضهُم بعض بجسدٍ واحدْ. |
ذلك الحبيب الذي لطالما أرهقني الشَوْقُ لَهْ وحفظتُ تفاصيلَهُ وكَتبتُ فيهِ الكَثير، كُنا جميعاً ننحَصِرُ في المسجدِ القَبَلِيّ مِنا مَنْ يُجَهِّزُ نفسهُ لِيضربَ حجراً أو صاروخًاً طائر (كُرسِّيّ) يَضرِبُ بعزمِ المُرابطِ وقلبَ المُحبَّ الغاضبْ ومنا من يقف خلفَ البابَ ليِفتَح الأبواب الموصدة قليلاً لمطلقي الحِجارة، وكبار السِّنِ يُرَتِّلونَ القُرآنَ ومنهُمْ مَنَ يُناجي اللهَ بأنْ يحفظَ المسجدَ مِن مغتصبيه.
أقفُ مُرتبكاً اتَخَبَّطُ بالنظراتِ هُنا وهُناك، الجَرحى ودمائَهُم مَحمولونَ إلى داخلِ المَسجدَ القِبَلِيّ لعلاجٍ مُؤقّت، صَوْتَ الطيورِ المفزوعةَ الخائفة، والمرابطاتُ أراهُنَّ مِنْ بعيدٍ يَقِفنَ عِنْدَ قُبَّةَ الصخرة وأسمَعَهُنَّ يَهتِفْنَّ " خَيْبر خَيْبر يا يهود جَيْشُ محمدٍ سَوْفَ يَعود "، وبعضٌ مِنَ الصهاينة يتجولّونَ ويأخذونَ الصُوَرَ تحتَ حِراسَةِ جُنودِ الإحتلال، وطفلةٌ تُوصِلُ لنا بعضَ الحجارةَ مَوْضُوعَةً في حقيبةٍ ، استذكرتُ الحروبَ والمعاركَ وكيفَ يَصِلُ الدَّعمَ الخارجيّ !!
ما بينَ كَرٍّ وفَرّ ، تَقَدُّمٍ وَرجُوعْ، وبينَ أبوابٍ تُفتَح وأخرى مغلقة، وبين أصواتَ التكبيرِ والأجسادِ المُتشابكةِ، وبينَ جريحٍ وثائرٍ، وما بين دعاءَ مُرابطٍ ومسجدٍ يُدَّنِس، أقِفُ هُنا على الجُرحِ النّازِف مُنذُ سِنين، أحاضرٌ بيننا هنا؟ فلم يتحزَّب أحدٌ ولم يَصرِخ أحدٌ باسمِ فصيلٍ ولا حركة، فكانَ الجميعُ يهتفونَ بحنجرةٍ واحده يساندونَ بعضهُم بعض بجسدٍ واحدْ يأخذونُ عن بعضِهمُ الإصابات ويَتَلَقُّونَ الطلقات.
لقد التأَمَ الجُرح وما عادَ للنزيفٍ مكان، فاليَّدُ بجانبِ اليَّدْ الرَّاميةٌ للحجرِ أو الزجآجآتِ الحارقة، ابن الحركةِ تلك َوابنُ الفصيلِ ذاك، ولم يبق لخطوطِ الخارطة مكان ٍولم تفصلنا الحدود هنا، فجميعَ من كانوا تُركيُّ ومَصريٌ وخليجيٌّ وغيرهم الكثير روحٌ واحدة ودَّمٌ واحد. فرقتهم الحدود والأحزاب وجمعهم النفير لدفاع عن أولى القبلتين فرقتهم الجنسيات والحواجز وجمعهم حب تلك البقعة المباركة، وفاض غضبهم على مدنسيه ومغتصبيه، وتكاتفوا في وجه الرصاص واختلطت دماء جروحهم ولهم هدفٌ واحد أنْ يبقى الأقصى طاهراً وللمسلمين فقط.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.