شعار قسم مدونات

إبيجراما تؤلفها الذاكرة وتقرأها الثورة

blogs - tunis
التاريخ في تونس يرويه الآن تونسيون أحرار لم ينسوا أن ذاكرة الشعوب كاللوحات السود التي توضع للطلاب والتلاميذ في غُرفات الدرس وحجراته، يثبّت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك كما قال طه حسين.

هؤلاء المنتصرون الخارجون من غرف التعذيب ومن قبو وزارة الداخلية حطموا لوحة الحداثة الزائفة التي خطّ عليها بورقيبة ومن بعده بن علي أكذوبة حقوق الإنسان..

تماما كما نقش اليونانيون الإبيجراما قصائدا وقصصا تخلد ذكرى الموتى، نقشت خالتي وريدة بكلمات بسيطة المبنى وعميقة المعنى ذكرى شهيد من شهداء الثورة.

كُل الاساطير عن حقوق الإنسان في تونس قبل الثورة نُسفت ذات ليلة في سيدي بوسعيد وليس ببعيد عن قصر آخر جلادي تونس.

لا يبدو أن خالتي وريدة وسامي براهم وبسمة البلعي وغيرهم احتاجوا لتلك اللوحة السوداء ليثبتوا عليها شهاداتهم في جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد، فما رأوه هؤلاء كان يُنقش في كل لحظة على ذاكرة شعبٍ صرخت في عروقه الدماء ليس توقا للكرامة والحرية فحسب بل ايضا توقا لمعرفة الحقيقة ولمحاسبة جلادي الأمس.

تماما كما نقش اليونانيون الإبيجراما قصائدا وقصصا تخلد ذكرى الموتى، نقشت خالتي وريدة بكلمات بسيطة المبنى وعميقة المعنى ذكرى شهيد من شهداء الثورة.. عبد الرؤوف كدوسي.. وخاطبت السياسيين ببلاغةٍ لا يَعلم سرها ربما إلا أهل الرقاب وأهل سيدي بوزيد أين اندلعت شرارة الثورة التونسية.

"إحْنا عاوناكمْ بالدّم والروح، شكون جَابكمْ من ألمانيا ومن فرانسا ومن الحَبسْ؟ مَاهو جابوكم الشهداء.. شكون سيّبهم من لحْباس شكون جابهم من المنفى.. إحْنا بدينا بالروس والدمْ وانتُم كمّلوها بالعِلمْ والعقل والضمير الحي… احْنا عطينا النفيس الغالي، عطينا اولادنا جرحى وشهداء..وأنتم؟..

هكذا خاطبت السيدة وريدة كدوسي من حضر من السياسيين في جلسة الاستماع العلنية.. حُرقة خلفها فقدان الابن، وحُرقةٌ اخرى خلفها إهمال حكّام تونس ما بعد الثورة لجهة سيدي بوزيد بتناسيهم المعنوي والمادي لسكّان المنطقة كما قالت خالتي وريدة التي طالبت بالتنمية في مدينة الرقاب وذكّرت بحق شباب الجهة في المشاريع والاستثمارات الوطنية التي ستكون السبيل الوحيد لضمان كرامتهم الاجتماعية.

في نفس الليلة، استمع التونسيون لشهادة الباحث التونسي سامي براهم.. الضحية البطل. كثّفت شهادة سامي معاني آلام الماضي.. وشكلت مقطعا آخر لإبيجراما نقشتها على ذاكرة الشعب التونسي شهادات أولئك الذين نكل بهم جلادوا نظامي بورقيبة وبن علي..

"أنا مُستعد وادعُوهمْ إذا كان يجيو الجلادين هَذوما ويعترفوا، أنا مستعد نغفرلهم بشرط يجيوا و يعترفوا ويعتذروا ويفسروا ويجابوا على الأسئلة، أنا ماني متبّع حتى حد وما حاجتي باش نحاسب حتى حد… فقط أنا أريد كشف الحقيقة والجواب عن الاسئلة… نحبو يتسجل في التاريخ هالمرحلة السوداء باش ما تتعاودش.. أنا جيت لهنا باش الي صار عليَ ما يتعاودش على بنتي.."

هكذا وجّه سامي براهم رسالته لجلاده. لم يطلب التشفي ولا القصاص ولم يذكر حتى أسماء جلاديه.. كادت تغالبه الدموع للحظة لكنه تماسك.. فشهادته كانت للتونسيين.. لذاكرتهم ولثورتهم…أما دموعه فحبسها مُتعاليا بشهامة بطلٍ عن استجداء العواطف.. حبسها لأنه ظن أنها تخصه وحده ولم يعلم وقتها أن ما كاد يُبكيه أبكى التونسيين داخل قاعة الاستماع وخارجها..

في تونس، كتبَ المُنتصر بالحديد والنار التاريخ مرةً والآن يُعيدُ التونسيون الأحرار نقشه بأصواتهم بعدَ أن صارت شهاداتهم على مآسي الماضي ذاكرة شعب.

في جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد في تونس ما قبل الثورة خزنت ذاكرة الشعب صورا وكلمات لتونسيين قالوا نُسامحُ لكننا لا ننسى.. مطالب المتضررين كانت رمزيةً.. شارع باسم الشهيد.. يوم وطني لمناهضة التعذيب.. ولا يبدو أن التعويضات المادية بأشكالها كانت مُراد هؤلاء.. فمنهم من حرمهم نظام الاستبداد من الحُلم مثلا.. كبسمة البلعي..

مَا حلمتشْ. .ماعشتش كيفْ لبنات…امتى باش نحلم؟ توّا باش نحلم؟ ماعادش نحلم.. أنا عشت بالسفساري وحلمت بالسفساري وحلمت بالسفساري وبمركز الشرطة.. هذا هو اللي حلمت بيه..
خلال يومين متتاليين استمع التونسيون لهذه الشهادات ولغيرها.. شهادات عرّت نظامي حكم اختلفا في الشكل وتشابها في المضمون.. قمع للحقوق والحُريات العامة.. تعذيب جسدي ونفسي .. تنكيل بمساجين الرأي وتصفية جسدية.

بين الماضي والتاريخ خيط رفيع. فالأول تجربة الفرد الخاصة التي قد لا تجتاز حدود أفكارٍ يدونها وخواطر تسكنه، والأخير هُوَ ما يكتبه المؤرخ ويُقال إنّ التّاريخ يكتبه المنتصر.

في تونس، كتبَ المُنتصر بالحديد والنار التاريخ مرةً والآن يُعيدُ التونسيون الأحرار نقشه بأصواتهم بعدَ أن صارت شهاداتهم على مآسي الماضي ذاكرة شعب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.