في حالة من الارتباك المفتعل، دلفت بكعبها العالي على المنصة المهترئة لحافلة النقل العام، المقاعد كلها شاغرة إلا من مقعدين في الزوايا الخلفية، أحدهما كان بجواري، والآخر كان بجوار رجل بضعف عمري، تقدمت بخطوات مضطربة وهي تدرك أن عليها الجلوس بجانب ذلك الرجل العجوز، على الرغم من رائحة عرقه التي كانت تكفي اختناقا من كان يجلس في الصفوف الأولى، ورائحة قدميه المتحررتين من نعليهما، بعد عزلة مائية عن الاغتسال منذ أسبوع على أقل تقدير.
نعم جلست بجانبه واختارت رفيقا كهذا لطريقها، كي لا تجلس بجانب شاب أهدر نصف قارورة عطر على ثيابه قبل أن يغادر منزله، فلا تذهب به الظنون بعيدا ويعتقد أنها وقعت في مصيدة الإعجاب الاول به بعد أن تقاطعت عيونها بعيونه وهي تبحث عن مكان في الحافلة للجلوس.
ذهبت إلى وظيفتي الأولى كأمين صندوق في مصلحة الهواتف، وألقيت تحية الصباح على زميلي الذي يفصله عن سن التقاعد للشيخوخة غير المبكرة زهاء عام أو عامين، وبدأ المراجعون يتوافدون إلينا كغيث السماء المتقطع، إلى أن مزقنا أوراق الصحف ونحن نقاتل الوقت الذي لا يمضي من قلة العمل.
كلما كان المتصل رجلا في أوج شبابه، يحاولن النساء إنهاء المكالمة وتجنب الخوض في نقاش منطقي لتساؤلاته. |
وفجأة أطلت علينا امرأة في ربيع العمر، واتجهت بخطوات لا يشوبها التلكؤ نحو زميلي الهرم، والذي كان يغط في سبات عميق على الهاتف مع زوجته حول احتساب تكاليف رحلة الحج المزمع عليها في هذا العام، ولا يزال يناقش معها عروض الأسعار المعلنة عنها في الصحيفة التي حفظها عن ظهر قلب، ولا تزال المرأة تنتظره كي يدمغ فواتير هاتفها الشهرية بمنتهى الصبر، دون أن تلتفت نحوي وتجعل المرض يتداعى في قلبي بين أوهام واحتمالات تخطىء الصواب بقدومها إلى نافذتي الخاوية من الزبائن، فهي أنثى لها من الحياء مقام، ولن تخاطر بسمعتها بالحديث مع شاب مثلي إلا في ظروف استثنائية تدفعها إليها الأقدار.
كنت أقف على قارعة الطريق، في حي من أحياء المدينة التي لا يعرف معالمها الجغرافية رجل مثلي، ولقد طالت لحظات الانتظار التي أقحمني فيها صديق لا تجمعني به سوى المناسبات الحزينة، وكان يقف غير بعيد عني، رجل تجاوز عقودا خمسا من حياته على وجه الدقة، وعلى ما يبدو أنه كان في محطة انتظار لا تختلف في ظروفها كثيرا عن محطتي.
ولكن وبنظرات فضول خاطفة تمكنت من الاستنتاج أنه غريب عن هذه المنطقة المزدحمة بالسكان، تقترب من كلينا سيارة شديدة السواد، وتتوقف كلية عند ذلك الرجل، وتنزلق نافذتها غير المرئية المقابلة لسائقها آليا، وينبعث صوت أنثوي يستفسر عن معلم بارز في ذلك الحي، وإذ بعقدة تلو عقدة لا تنفرج بلسانه وهو يحاول جاهدا الادعاء بمعرفته للمكان، تتجاهل السائلة وجودي، وتشكر ذلك الرجل على محاولاته اليائسة في مساعدتها، وتنطلق تائهة بين الطرق المتعرجة في ذلك الحي، كي تقطع كل السبل المؤدية للحديث مع شاب في عمرها سيعتقد أنها تعمدت الوقوف من أجل التحرش غير المباشر به.
في المساء أجلس بقليل من الاهتمام لمتابعة مقابلة تلفازية لعصبة من النساء يتحاورون حول أسرار العلاقة بين آدم وحواء، وإذ بي أدون في ذاكرتي مجموعة من الملاحظات وبشكل لا إرادي، فكلما كان المتصل رجلا في أوج شبابه، يحاولون إنهاء المكالمة وتجنب الخوض في نقاش منطقي لتساؤلاته، وحين يكون المتصل رجلا أكل عليه الدهر وشرب بأفكاره القادمة من زمن الأبيض والأسود، أي أنه كان في عمر الشباب قبل دخول ألوان الطيف للتلفاز، يحتدم النقاش ويتفاعلن بغبطة غير مسبوقة مع كل كلمة يقولها، ففي عالمنا العربي هنالك دوما رموز وأساطير لا تتكرر قط.
وفي حالة هذا الرجل على وجه التحديد، فإن الرجولة قضت نحبها من بعده، ومن المستحيل أن يجيد شاب في عمر أبنائه التحاور مع النساء، ولكن الوجه الخفي لذلك كله، أن المرأة العربية تعاني من عقدة إلكترا، فهي لا تجد في صدرها حرجا من الحديث مع رجل في عمر أبيها في أي موقف يستدعي التفاعل بين الجنسين، ولكنها تخشى أقرانها من الشباب، معللة ذلك بالعبث والاستهتار الذي هو من سماتهم، بعكس العجزة الهرمين والطاعنين في أرذل العمر، فهناك تجتمع الحكمة والتجارب والخبرة التي لا تتكرر، ولا زلنا نسأل أنفسنا معشر الشباب عن سبب اتساع الفجوة بين عالم الذكور والإناث؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.