شعار قسم مدونات

شآم وشام

blogs - syria

نعم.. الأطلال العصرية الأثرية المدمرة، لا يزال الياسمين يُقبلها ويُعانقها، من قبلها خرجنا مفعمين، من بعدها ماسكتنا غاضبين، من قارصِ برد الشتاء العابر فوق مدينتنا نحن فقط، جلسنا نسامر بين مقابر الذكريات وجثامين الرضع والشيوخ وعامة الشعب في ليل الظلام والبث، بذلك الليل حتى القمر حقود، لا يعرف سمائنا ليصبح من فصيلة ذلك الوحش النازي، أو ربما نكون قد ظلمناه بسبب الدخان الذي يبلط سقفنا الفارغ.
 

آه تذكرت بذلك الليل أيضاً غراب الحي أمسى مقتولاَ بغدر شظية نحرت عنقه وزوجته أصبحت أرملة كذلك، طرقاتنا كانت معبّدة والآن معبّدة بمواكب تُشردنا ومواء القطط ونباح الكلاب، لن تختلف فينا العبارات ولا تعابير قلوبنا ولا انزاحت عزائمنا خلسة عن بال أحد منا، اختلف فينا تهدل أجفاننا وانقباضات أفئدتنا، وكل منا كان لشفتهِ السفلى نصيباً من عضةٍ كَهلة، وبومة مدينتنا ما عدنا نتطيَّرها.

من زقاق بيت جدي وساحة حيينا التي ودعنا فيها فلذاتنا وشهدائنا..عُدنا نغزوا مبتسمين ضاحكين تخنقنا دموع الانتصارات الواسعة في عروق الشام. عُدنا.

فالأحزان حطّت ترحالها بكل مكان واستعمرت أرصفتنا، وأمعاء أجسادنا الميتة شكلياً والحية أملاً وثباتاً صارت خاوية منذ فترات زمن متقطعة طويلة، لأننا نتكاسل في طبخ الطعام وجلب النار للطهي، فغرف مؤننا وثلاجاتنا تشتكي الفراغ الممتد، الذي ولد من تجارب التجويع التي نُصبت في مدننا لتأخذنا في سياحة الموت شبه المحقق ببحر أيجة أو حدود دول العالم الاول.
 

أتعلمون؟ الأدرنالين في أجسادنا جلاد وخائن، وكسَّر زجاج الخوف، فصارت الأفراح والأتراح مغتصبة وملقية في براري الماضي، وخائف لفظة سوقية لا نرددها نحن أصحاب الأدب العريق وأحفاد الصحابة والتابعين.
 

ترهات وأفّات وإمّعات ضيقت علينا، فأودعنا القلوب قبل الأجساد بأسراب الحمام الذي أصبح مارّاً من فوق بيوتنا، هجرتنا الفراشات ولحِقتها العصافير ومآذن الجوامع الشامخة كشموخ رجالنا، أحزان كانت كبيرة أكبر من أن يراها مُبصر استحلّت وتحلّلت ببلادنا ،أصابتنا النوبات المتطفَلة لتسرق بسمة وجوهنا، تتر ومغول ومجوس وطائرات ومجانيق ودبابات وسيوف وضباع بني آدم اعترضوا صدورنا وأنفاسنا ومزقو وحدتنا وأُنسَتنا.

نعم من هنا من ثنايا الوسائد البالية وما يسكنها من أحلام الإصرار تسلحنا واستبسلنا، فعدنا كما عاد رسولنا فاتحاً لمكة، كما لسعات الشمس التي أوت أجسادنا ونحن نسكن الخيمة التي نصبناها فوق أرض حديقة ثلج الشتاء، نعم من ذلك السفح العالي قاسيون أبانا قديماً وأبو المدفعية والصواريخ الآن، من غوطة السارين والخردل، وفسطاط المسلمين مستقبلاً، من تلك الأمصار التي أعلناها حرَة وقلباً للعروبة والمساواة والعدل النابض، من عاصمة لعدَاد الشهداء وصيحات الحق التي أخرجتها حناجرنا، من ذلك النهر الذي انحسر بين ناب الخنزير وناب الكلب المسعور الذي افترس أجنتنا وأطفالنا قبلَنا، من بين جماعات الاختلاف وسباقات الالتفاف لطعن خاصرتنا جئنا..

عُدنا ومعنا أرواح من السماء وجثامين استفرغتها معدة الأرض عُدنا.. عُدنا مع المنايا وكل منا يحمل منيته براحة يده الملطخة، نعم أتينا من جذور الياسمين التي ظنوا أنهم قتلوها، عدنا والعود محمود، الكنيس والكنيسة فيه تصدح بتكبيرات أفواهنا، من زقاق بيت جدي وساحة حيينا التي ودعنا فيها فلذاتنا وشهدائنا..عُدنا نغزوا مبتسمين ضاحكين تخنقنا دموع الانتصارات الواسعة في عروق الشام. عُدنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.