شعار قسم مدونات

علماء الدين.. مفهوم يحتاج إلى تحرير

مدونة- علماء

كم عدد أزرار قميصك؟ لا أدري!.. لم لم تعدها من قبل؟.. وما حاجتي لعدها؟!.. آه صحيح. الإنسان لا يهتم عادة إلا بما له حاجة، ومن النادر أن يحاول التعرف على أقرب الأشياء إليه إن لم يكن له بهذه المعرفة حاجة؛ فما حاجته لمعرفة عدد سلالم البيت مثلا، أو عدد المرات التي كذب فيها على زوجته!

هذا النوع من المعرفة يدخل في باب الترف بالفعل، وإن كانت له دلالة على مستوى الذكاء والألمحية التي تناسب بعض المهن، كمهنة رجل المخابرات مثلاً كما عرفناه في القصص البوليسية. لكن هذا لا يعني أننا نميز دائما بين ما هو حاجة وما هو ترف في مجال المعرفة، بدليل أن لدينا الكثير من المفاهيم الخطيرة، التي تكاد تسيطر على حياتنا العقلية، لا نعرف عنها شيئاً محققاً، منها على سبيل التمثيل مفهوم "علماء الدين".

عالم الدين هو العالم بنصوص العقيدة والشريعة، وهذا تعريف لا علاقة له بإيمان العالم أو صلاحه

فهذا المصطلح الذي يعد من أشهرالمصطلحات وأخطرها في حياتنا، لا نكاد نعرف عنه إلا صورة ضبابية الملامح هي خليط من الحقيقة والوهم. فمصطلح علماء الدين عند عامة الناس يشير غالباً إلى فئة من الناس جمعت بين المعرفة والإيمان والصلاح، وهو تصور لا أساس له في معاني التركيب اللغوي.

والمفهوم الذي لا يتأسس على المعاني المعجمية كالعملة النقدية التي ليس لها غطاء من الذهب، كل زيادة فيها تعني زيادة في التضخم. إننا بالفعل أمام حالة تضخم دلالي خطير في مصطلحاتنا التأسيسية العربية، وفي مقدمتها مصطلح علماء الدين.

وبتحليل هذا المصطلح معجمياً يتبين أن لا علاقة له بمعاني الإيمان والصلاح التي تضاف إليه عادة. فكلمة علماء من "العلم" وهو إدراك الشيء على مستوى اليقين، وكلمة الدين تعني في هذا التركيب الخطاب الديني. والخطاب الديني هو مجموع النصوص التي يعتقد أنها دينية، وهي في الإسلام قسمان: نصوص العقيدة ونصوص الشريعة، وبناء عليه فعالم الدين هو العالم بنصوص العقيدة والشريعة.

وهذا تعريف لا علاقة له بإيمان العالم أو صلاحه، فمن أين جاءت هذه الزيادة في الحد؟!. على الأرجح فقد تأثر الوسط الإسلامي بالكثير من الصور والمفاهيم الكتابية والدينية التي عرفها المسلمون في قرون تأسيس العقل الإسلامي.

ومن بين تلك الصور التي تسللت إلى العقل الباطن الإسلامي صورة الكاهن، الذي كان يجمع في منصبه بين مقام العالم العارف ومقام الإيمان والصلاح، وهي الصورة التي حاول البعض تأصيلها برواية منسوبة إلى النبي محمد تقول إن " العلماء ورثة الأنبياء" لكن الرواية لا تسعفهم في ما ذهبوا إليه، لأنها بنصها تؤكد أن ميراث الأنبياء هو ميراث العلم فقط لا غير، ولا ذكر فيها لمقامي الإيمان والصلاح.

تنبني على هذه المقدمة نتيجة منطقية تقول إن عالم الدين هو العارف الخبير بشروط الدلالة الدينية ونصوصها، حتى لو لم يكن مؤمنا بمضامينها. فالعالم باليهودية هو من درس التراث الديني اليهودي دراسة وافية تخوله الحديث فيه حتى لو لم يكن يهودياً. وبهذا فإن عالم الدين هو مجرد مثقف لا فضل له ولا مزية على سائر المثقفين، ولا معنى لأن يتخذ من الأزياء والشارات ما يجعل له امتيازاً عليهم.

علماء الدين ليسوا فئة خاصة من الناس كما يتصور البعض، وإنما هم فئة من الدارسين والخبراء لنصوص الخطاب الديني

هذا الفهم للدين سيعفي الدين نفسه من تحمل أعباء التضارب والاختلاف بين علماء الخطاب الديني داخل الملة الواحدة، كما هو الحال في تاريخ المسلمين وحاضرهم، وسيحرم مؤسسات الاستبداد في المجتمع من توظيف الدين ضمن عملياتها القذرة. وهما ثمرتان عظيمتان تستحقان إعادة النظر في هذا المفهوم بالفعل.

علماء الدين ليسوا فئة خاصة من الناس كما يتصور البعض، وإنما هم فئة من الدارسين والخبراء لنصوص الخطاب الديني. ولا صحة لقولهم إن الشخص يستمد شرفه ومقامه من التخصص العلمي الذي تفرغ له. فالمعرفة بجميع أصنافها على درجة واحدة من القيمة، والقرآن لا يتحدث إلا عن العلماء، مطلق العلماء لا عن فئة منهم، ولا عن تخصص محدد من التخصصات العلمية والمعرفية.

وبالعودة إلى معنى كلمة علم في المعجم وفي السياقات القرآنية، يتبين للمحقق أنها تشير إلى مستوى محدد من المعرفة هو مستوى المعرفة اليقينية لا مجرد المعرفة. والمعرفة اليقينية في الخطاب الديني هي منطوق النصوص ودلالاتها الصريحة، التي يمكن وصفها بـ "المعلومات" بالإضافة إلى شروط فهم الخطاب، من علوم اللغة والمقاصد والسياق وغيرها.

ويخرج من هذا التعريف المعارف الظنية، أي تلك التي تخضع – بسبب غموضها – إلى إعمال ذهن واجتهاد في الاستنباط. صحيح أن من وظائف العالم أن يجتهد ويغوص عميقاً في باطن النصوص، إلا أن معارفه الظنية لا تسمى علماً، فالعلم هو فقط ذلك المستوى اليقيني في عمله وإلى هذا المستوى ينتسب ويسمى عالما ولا يسمى عارفا، وهو الاحتراز الذي فهمه المتقدمون – إلى حد ما – فأطلقوا على المتصوف اسم العارف بالله وليس العالم بالله، لإدراكهم أن العلم بالله مستحيل، وأن طاقة العبد في معرفة ربه – خارج النصوص الصريحة – لا تتجاوز مستوى الظن.

ولعل هذا البعد هو الذي ألمح إليه التعبير القرآني بكلمة "يظنون" في قوله " قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة" (سورة البقرة)، مع أن الحديث عن مؤمنين صالحين!.

إن التمييز بين المقامات المختلفة في المركبات المفهومية – ومنها مقام العلم ومقام الإيمان – ليس شرطاً في صحة الفهم وحسب، بل وفي صحة الإيمان نفسه، لأن الخلط بين المقامات قد يؤدي إلى نوع من الشرك الخفي الذي يبدأ صغيراً وينتهي كبيراً. والشرك هو معنى من معاني التضخم العقلي والروحي (النفسي) له مخاطرة الاجتماعية والنفسية التي يدركها النابهون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.