إن المجتمعات العربية ترزح تحت كم من الأمراض الاجتماعية التي كانت المسبب الأكبر في تدني حالتها، فالمجتمع كيان حيٌّ يصحُّ ويقوى، يمرض ويضعف وقد يهوي ويموت، وإن الأمراض الاجتماعية أشدُّ خطورة من الأمراض الصحيّة، لأن الأمراض الصحية غالباً أعراضها واضحة وكذلك علاجاتها وأكثرها لاينتشر.
أما الأمراض المجتمعية فتتخفى تحت صور شتى ويصعب وصف العلاج لها ولايعترف أصحابها بها غالباً. ويقول العلماء أن المجتمع السليم هو الذي يدور في فلك الأفكار والمبادئ، أما المجتمع المريض فهو الذي يدور في فلك الأشخاص بينما يصبح ميتاَ إن كان يدور في فلك الأشياء. وإن مجتمعاتنا العربية مابين الحالتين الثانية والثالثة، وقليل منها في الحالة الأولى.
بين الفرد والمجتمع
الأمراض المجتمعية فتتخفى تحت صور شتى ويصعب وصف العلاج لها ولايعترف أصحابها بها غالباً |
علاقة جدلية تربط بين صحة المجتمع وصحة الفرد، فكل منهما يؤثر بالآخر ويتأثر به المجتمع السليم يحتوي أفراده، يعالج أمراضهم بوسائل شتى منها الرحمة بهم، والعدل بينهم ومنها المثوبة والعقاب. في حين أن المجتمع المريض يضغط على الأصحاء من أفراده ويستغل المرضى منهم لتأصيل المرض…، وكذلك الفرد فإنه يؤثر في مجتمعه، فإن كان مريضاً استسلم في مجتمعه المريض وزاد في أمراض ذاك المجتمع، وإن كان سليماً قوياً عمل على معالجته، بل وساهم في زيادة صحة مجتمعه إن كان سليماً.
أصل الأمراض وأشدها
بعض أمراض المجتمع عرضية تسهل معالجتها وبعضها الآخر مزمن يتأصل في كيانه، بل قد يولد أمراضاً أخرى تنتشر بين أجزائه كما تنتشر النار في الهشيم، وإن أشد تلك الأمراض افتراساً للمجتمع هو مرض اليأس الذي يتسلل فيه على استحياء دون أن يلحظه أحد، وقد يأتي متخفياً وراء مسميات عدة، كالواقعية والحذر… وغيرها.
مرض اليأس هو ذلك الداء الذي يظنه المريض وعياً بالواقع وحنكة في التعامل الفعال، وتستثمره السلطات المستبدة في قهر الشعوب المستضعفة، ويعتني الغازي بتثمينه وجعله قانون حياة تحت مسميات شتى، بل وينساق بعض العلماء لتبنيه بحجة سد الذرائع أودفع الخطر الأشد بالخطر الأقل أو الصبر وغير ذلك.
ماهي حقيقة مرض اليأس؟ وماهي مظاهره؟
إنه استشعار ضعف الذات وقوة الغالب، هو موت الروح المعنوية والهزيمة النفسية، والنكسة الحضارية، هو الانضواء تحت أنقاض الإحباط، والاستسلام لعناصر الفساد، وتضخيم جوانب الضعف والعمالة والخيانة في المجتمع، هو تعظيم قدرات وخطط العالم التكنولوجي للتحكم بنا والسيطرة علينا.
يقول النورسي، إن اليأس داء عضال للأمم والشعوب وهو أشبه مايكون بالسرطان، وهو المانع من بلوغ الكمالات، وهو المخالف لروح الحديث القدسي الشريف "أنا عند ظن عبدي بي".
ويرى النورسي أن ذلك الداء هو أصل الأمراض في المجتمع، فهو يقتل الصفات الحميدة ويزرع الصفات الذميمة وينمّيها، يورث حب النفع الخاص ويقود إلى أمراض خمسة، فهو يقود إلى التملص من المسؤولية والخلود للكسل، ويسوق إلى التخلي عن الشهامة الإيمانية وإلى ترك العمل الجاد والاستخلاف، ويمنعه من بلوغ الكمالات.
مثال من الواقع – خاطر والأمراض الستة
خاطر موظف في إحدى الجهات الخاصة، عانى جداً حتى حصل على فرصة عمل رغم مؤهلاته الجيدة، حتى استشعر اليأس من توفر فرصة عمل أخرى، فاستسلم لرب العمل بكل كيانه وأصبح يداهنه ويتابعه لحد النفاق الذي هو رديف الكذب وعدو الصدق.
أصبح خاطر يشعر بالخوف من فقدان مكانه، فعمل على محاولة إثبات ذاته وصار يحترز من كل ناجح في العمل من زملائه، ويحاول اصطياد أخطاء ذلك الناجح، بل وأخذ يتربص به إلى حد العداوة والبغضاء، فوصل إلىى حد خلق حالة من الفرقة والخلاف بين الزملاء. لم يكن همه نجاح عمله ونهضة مؤسسته، بل حصر همه في منفعته الشخصية التي ظنها في رضا صاحب العمل عنه فقط.
غازي صاحب الشركة أدرك تلك الحالة في شركته فاستثمرها لصالحه، استبد بخاطر وأمثاله وحرص على استمرار حالة العداوة والفرقة لضمان سيطرته وسيادته، وحرص على استغلال الحالة لتحصيل منافعه الشخصية.
الأثر الكبير لليأس ينفي العجب المتولد من جعله رديف الكفر و عده من صفات الكافر والضال |
لقد توالد ذلك اليأس في نفس صاحبنا أمراضاً خمسة، المداهنة والنفاق، العداوة والبغضاء، الفرقة والاختلاف، سريان الاستبداد، حصر الهمة في المنفعة الشخصية، يدور في فلك الأشخاص، وحصر في همه تحصيل الأشياء ثم انتشر المرض وأولاده بين الزملاء في العمل، وتوالدت تلك الشركة مؤسسات طبعت البلد بطابع الذل والتخلف.
أثر اليأس في المجتمع
إن الأثر الكبير لليأس ينفي العجب المتولد من جعله رديف الكفر و عده من صفات الكافر والضال حيث قال الله تعالى" قالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ " الحجر 56، وقوله" إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" يوسف87. وتتكرر صور ذلك اليأس المتولد في المجتمعات، حتى تصبح صبغة لبلاد تخلفت حضارياً وسبقها الركب العالمي، فأصبح لسان حالها يقول: ولات حين مناص، أين المفر..؟
اليأس وعلاجه عند مالك بن نبي
يشخص مالك بن نبي حالة اليأس تلك بأنها جعلت الفرد في بلادنا بين مخافتين: أولاها أن هذا الفرد لايملك شيئا أمام قوة وبطش حضارة التكنولوجيا من جهة، ومن جهة أخرى أنه لا يملك شيئا من أدوات الحضارة فكيف به يستطيع أن يروي أرضا جدباء في قمة الجبل!..
ولكنه سرعان مايصف العلاج عندما يراهن على الجانب الأخلاقي، لإيمانه بأن الحضارة لا تقوم إلا عليه فيقول بهذا الصدد "ليس الهدف أن نعلم الناس أن يقولوا أو يكتبوا أشياء جميلة وإنما الهدف أن نعلمهم فن الحياة مع زملائهم أعني أن نعلمهم كيف يتحضرون"، ويضيف "علينا أن نفعّل العمل الجماعي المشترك من أجل الوصول بالمجتمع إلى غايته، وهي الحياة الراقية أعني الحضارة".
علاج اليأس عند النورسي
يصف النورسي علاجاً لذلك الداء القاتل بقوله " فمادام هذا الداء قد فتك فينا إلى هذا الحد، ويقتلنا على مرأى منا فنحن عازمون على أن نقتص من قاتلنا فنضرب رأس ذلك بسيف الآية الكريمة " لاتقنطوا من رحمة الله " الزمر53. ونقصم ظهره بمقولة "مالايدرك كله لايترك جلّه".
ثم يلجأ للتحفيز على مقاومة ذلك المرض بقوله إنه شأن الجبناء والسفلة والعاجزين وذريعتهم، وهو ليس من شأن الشهامة الإسلامية، وليس من شأن العرب الممتازين بالسجايا الحميدة، التي هي مفخرة البشرية.
بين اليأس والحذر
وفي الختام فإنه ليس من التشاؤم ولا من اليأس أن يتوقع المرء المصيبة بسبب دلالة الأحداث والقرائن ووجود الأسباب المؤدية إليها، بل ذلك من الحكمة والتعقل ولا يتعارض هذا مع كون الإنسان في هذه الحال موصول الرجاء وموفور الأمل، وكون المجتمع جاهز الخطط، مستمر في المتابعة قوام بالسعي والأخذ بأسباب الفلاح والنجاح، والتخلص والفرار من أسباب الفشل والخسران.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.