شعار قسم مدونات

أيها الجلادون.. هَلَّا فرغتم من الكأس؟!

BLOGS- سجون مصر

كالثائرين قياماً وقعوداً، ونياماً على جنوبهم، كالثائرين زحفاً وصموداً، يتنفسون أوجاعهم ورمق أحلامهم الموؤدة، بهديل الذكر والدعاء، ويحتضنون الأرض في سجودهم، في مقابر متجاورة، تتكدس وتتلاحم فيها أجسادهم الهزيلة، على بضع بلاطات مرصوصة، تكسو أجسادهم ملابس مهترئه، ويقتاتون لقيمات من الطعام لا تُغني ولا تُسمن من جوع وبرد، وإيلام وصراخ أوصالهم المُعذبة، يستنشقون زفرات الهواء من شُراعات الأبواب الحديدية الضيقة، داخل سجون ومعتقلات دامية، بأسوارها المُرتفعة، وأزقتها المُوحشة، وقضبانها الصدأه.
 

أكثر من خمسين ألف شاب مصري، ينفرط عقد أعمارهم، على أيدي جلادين الداخلية، داخل عنابر وسلخانات التعذيب، وسط رُكام القمامة، ورُفات الأحلام، لتقف جدرانها شاهدة، على ما يُعانيه المعتقلون السياسيون في مصر، والتي سيُنطِقها الله عز وجل حجراً حجراً يوم المشهد العظيم.
 

القانون المصري الصدئ، وصفحاته المُذلة المعجونة بماء الزيف والقهر والطغيان، لا يحمي سوى القتلة والمجرمين، ورجال الأعمال، ورموز الفساد، ولا يخدم سوى مصالحهم وبقائهم المُستوحش.

كسلسال من الدم يجري فيملأ الأركان والزوايا، ويُصبِغ خَشاشَ الأرض بحُمرة الدم الطاهر، لتظل رائحته نافذة عالقة بأيدي الجلادين، تؤرق مضجعهم، وتنحت المسخ والوحشية على تقاسيم وجوههم العارية، التي يأكل الخوف. بارعون هم في استئصال فُتات الإنسانية، ورُفات الأحلام، حتى لا يبقى لها أثراً، بارعون هم في قتل الآمال التي انحنت سيقانها، وذبلت أوراقها لتسقط واحدة تلو الأخرى، ألا وهي حقهم في الحياة والإنسانية والكرامة، والعيش بسلام بين ضلوع أسرهم.
 

إن ما يحدث في حق شباب جماعة الإخوان المسلمين، والثوار الشباب من مختلف القوى الثورية، طيلة العامين الماضيين، من خطف قسري، واعتقالات بالجملة دون عرض على النيابة، في سجون ضيقه كعلب السردين، يتقاسمون فيها النفس الواحد، وإصابة الكثير منهم بالأمراض الوبائية والخبيثة، جراء التعذيب والصعق بالكهرباء، وتلوث ماء الشرب، وقلة الطعام، مع الإهمال الطبي القاتل والمُتعمد، ليتركونهم كلقم العيش المُستساغة، فريسة لأنياب الأمراض، تنهش في أجسادهم، وتنخُر في عظامهم الواهنة، والتي تتلوى من شدة الألم إلى حد البتر، على أسِرة الموت، دون شفقة أو رحمة.
 

كل هذا يجلنا نشعر بخزي العجز والإذلال، وقسوة الحال المُفرِطة حينما نرى أذرع نظام مبارك المخلوع، من القتلة والمجرمين والفاسدين، مُتكالبين كخيوط العناكب الغليظة، حول أعناق كل مؤسسات الدولة، ونرى رموزهم أحرار طلقاء في بيوتهم، ووسط أسرهم، يلتقطون الصور هنا وهناك، دون تحقيق أدنى درجات العدالة المُكممة، التي يدعيها قانون الغاب الذي نعيشه في مصر.
 

القانون المصري الصدئ، وصفحاته المُذلة المعجونة بماء الزيف والقهر والطغيان، القانون الذي لا يحمي سوى القتلة والمجرمين من حيتان الدولة، ورجال الأعمال، ورموز الفساد، ولا يخدم سوى مصالحهم وبقائهم المُستوحش، فالقوي يأكل الضعيف، والضعيف لا مكان له ولا دية!
 

نعم نحن الشباب فقط من دفعنا ثمن ثورة اغتيلت في مهدها، بألف وألف طعنة غدر، وبعشرات المسرحيات الهزلية، وسيناريو تقسيم الكعكة بخناجر مسمومة، وسنظل ندفع الثمن بمفردنا، وسط تبلد قاتل، حتى أصبحت دماء ونعوش الشباب مشهداً اعتباطياً، ونشوة في قلوب مريضة مصابة بداء الانتقام والتوحش والسادية، وصراخ ونحيب ذويهم ضجيجاً يزعج نومهم الهادئ.
 

لننتقل إلى مجزرة سجن "برج العرب"، وما حدث خلالها من اعتداءات متوحشة بحق المعتقلين والمحتجزين، فقاموا بإخراجهم، بالملابس الداخلية، مكتوفين الأيدي، مُكممي الأفواه بشرائح البلاستر، في عملية ترحيلهم وتغريبهم إلى سجني جمصة والمنيا، ووقوع انتهاكات لا حصر لها، من التعدي بالضرب المبرح، والتكسير المتعمد للأطراف، وحدوث إصابات بالغة الخطورة، بحسب شهادة الكثير من أهالي المعتقلين.
 

أين أنتم أيها الطغاة الظالمون؟ أين المفر لكم حينما تنشر صحف أعمالنا التي طويت، لتعرض علينا أعمالنا فنقول يا ليتنا كنا تراباً أو هباء منثورا.

بالإضافة إلى منعهم من رؤية ذويهم، الذين تتمزق وتعتصر ثنايا قلوبهم، وتتقطع أحبال حناجرهم، ألماً وحسرة على أحوال أبنائهم وفلذات أكبادهم، ليكون مبيت أهالي المعتقلين على بوابات السجون، هو الأمل الوحيد المتبقي لديهم، لرؤية أبنائهم والاطمئنان عليهم. لتنفجر ثورة أدب السجون، وهي رسائل وكتابات مُهربة تنقل آلام المعتقلين، ونحيب أرواحهم، التي تُلم شِتاتها من أجل القدرة على التدوين والكتابة، رغماً عن جُبن أيادي البطش المُرتعدة، وسياط الظلم المُمتدة، وأبواق السلطة الماسخة.
 

رسائل تعكس مشاعر المعتقلين، وأوضاعهم الغير إنسانية، يدونون ويفترشون أوجاعهم المُتفاقمة على أوراقٍ مهترئة، وعلى كل ما يصلح للكتابة، من مُخلفات القمامة المتناثرة. يحفرون كلماتهم التي تحكيها تجاعيد وجوههم المُتعبة، وشقوق كفوف أياديهم النحيلة، لينفضون رماد الظلم العالق بهم، وتتسع لهم رُقعة الأرض بما رحبت، وتتفتح نوافذ الأمل في أرواحهم المُمزقة، كفجاج من نور، تشدو في ساحاته أصوات حناجرهم المبحوحة بأنغام الحرية.
 

ولتتلألأ دموعهم المُنهمرة كالدُرر اللامعة على وجوهم، وتُدبدب أقدامهم الهشة العارية، كهزير الريح، وليستقيم انحناء ضلوعهم، وتُزهِر عروقهم النافرة وأوردة أجسادهم النحيلة، كالأشجار الباسقة التي تنمو أوراقها وأغصانها اليابسة من جديد، وتُعانق نور الأزهران في السماء.
 

يكتبون ليعلنوا نفيراً وعصياناً، كحسيس النار المتأججة، نحو الجلادون الذين يمثلون انتحاراً لمبادئ العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وطمس كلمة العدالة من بين صفحات القانون المهترئ، حينما يتسببون في إهانة وتعذيب وإزهاق أرواح بريئة بكل دمٍ بارد، واتهام أصحابهم باتهامات باطلة، ثم الإعلان عن براءتهم في قاعات المحكمة بعد موتهم! أي عدل تتحدثون عنه؟! وأي قانون تحكمون باسمه؟!
 

أين المفر لكم أيها الظلمة؟! حينما يتم النفخ في الصور، ويُفنى كل من على الأرض، أين المفر لكم حينما يقول رب العزة والجلالة لمن المُلك اليوم؟ لمن الحكم اليوم؟ أين أنتم أيها الطغاة الظالمون؟

ورغم كل هذا القهر الطاحن لأدميتنا، سنظل نكتب ونُدون سطورنا الخالدة حتى الرمق الأخير، سنكتب بدمائنا على أرصفة الطرق المُترامية، وإسفلت الشوارع الباكية، وعلى أشلاء عظامنا المبتورة، وستتدفق كلماتنا إلى الآذان كخرير ماء المطر الذي يروي ظمأ الأرض. وستظل القضية خالدة، وستبقى حكايا المظلومين إلى يوم الدين شاهدة، ليكون يوم المشهد العظيم برحمة رب العزة والجلالة ومشيئته، برداً وسلاماً وحبوراً، وبشرى لأرواحهم التي ذاقت عذاب الدنيا الفانية، وصبرت على عظيم ابتلائها، وظلت تستمسك بالعروة الوثق.
 

أين المفر لكم؟! حينما يتم النفخ في الصور، ويُفنى كل من على الأرض لتصبح خاوية على عروشها، أين المفر لكم حينما يقول رب العزة والجلالة لمن المُلك اليوم؟ لمن الحكم اليوم؟ أين أنتم أيها الطغاة الظالمون؟ أين المفر لكم حينما تنشر صحف أعمالنا التي طويت، لتعرض علينا أعمالنا فنقول يا ليتنا كنا تراباً أو هباء منثورا. قال الله عز وجل شأنه "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ".

 

فهَلَّا فرغتم من كؤوس الدماء الممزوجة بصرخات المظلومين، وعبرات الساجدين، ونجوى القلوب الداعية، وتيه العيون الساهرة، وعويل الأرواح النائحة، هَلَّا استكفيتم من سماع صرخات وأنّات الأجساد المُترامية؟! إذن فلتستعدوا يوماً لسماع دبيب الأقدام الثائرة، وصرخات الحناجر المتأججة، وتوحد الصفوف الممزقة، وبتر الجذور الفاسدة، وأبواق الظلم العارية، وأيادي الجلادين الدامية.

ولتستعدوا لسماع زفير جهنم ونارها المؤصدة، التي تُذيب العظام، وتكوي الأفئدة، حينما يقول لها رب العزة والجلالة هل امتلأتي؟ فتقول يا رب هل من مزيد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.