"توفيت سيدتان وثلاثة أطفال من النازحين من أحياء حلب الشرقية بسبب البرد" خبر مر سريعاً كما مرت قبله قوافل النازحين "قسراً" من أحياء حلب الشرقية، فالموت والنزوح ليسا سوى وجهان لعملة واحدة.
في كل شتاء يخطف البرد أرواحاً عديدة من النازحين لا يراهم العالم سوى أرقام في بحر ملايين اللاجئين والنازحين الذي يردون في أسطر النشرات الإخبارية والتقارير والمؤتمرات الصحفية، وحين يخيم الموت على المشهد يتحرك المتبرعون وتتبعهم المنظمات وتأتي متثاقلة الدول لتطلق حملات تبرعات بملايين لا تكاد تصل إلى منطقة الحدث إلا بعد دفن الضحايا بين أكوام الثلوج وبزوغ شمس الربيع التي تذيب التعاطف المقنع.
بالرغم من التحذيرات المبكرة والمتكررة للأرصاد الجوية وتنبؤها بالعواصف الثلجية إلا أن التحرك يبقى رهينا لسقوط ضحايا التجمد والبرد وكأنهم الومضة التي تشعل الفتيل، وكأننا ننتظر تكرر المشهد الذي تفاعلنا معه الشتاء الماضي لنبدأ التفاعل بالرغم من أنه من البديهيات أن الشتاء قادم وأن الأيام تمضي، وأن التنبؤات الجوية باتت دقيقة لدرجة يمكن الوثوق بها أكثر من الثقة بأهواء الممولين!
كنت كتبت قبيل الشتاء الماضي تدوينة تحت مسمى "في كل شتاء" وذكرت فيها المضمون ذاته واختتمتها بمقولة شهيرة لأينشتاين يقول فيها "الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة!" ولكنني اليوم أقول أن الجنون بات يتبرأ من فساد ممنهج في الوكالات الإنسانية ينتظر الكارثة ليتحرك بعد انتهائها ليقدم الأكفان بدلاً عن بطانيات تدفء المرتجفين على حدود الإنسانية.
في كل سنة وبعد ان تنتشر صور ضحايا البرد والتجمد نشاهد أكوام المساعدات الشتوية تتوافد نحو الحدود، ولكن بعد فوات الأوان، كفريق كرة قدم يترك مرماه بلا دفاع حتى إذا ما كان الوقت البدل الضائع صار يبذل قصارى جهده ليعادل النتيجة؛ بل حتى أن يسدد هدفاً واحداً يحفظ ماء وجهه، ولكن أنى له ذلك!
بالرغم من أن الاستجابة تأخرت في هذا العام، وقد سقط ضحايا البرد والتجمد إلا أن الاستجابة الضعيفة للغاية لم تغط حتى احتياج المهجّرين قسراً من حلب |
لا تبدأ الاستجابة الحقيقية في كل عام إلا بعد وقوع أول الضحايا -مع الأسف فنحن نحاول أن نحد الموت لا أن نحفظ الحياة- حينها تطلق المؤسسات حملات جمع التبرعات التي لا تكاد تخلوا من صورة تلك الضحية المتباكى عليها والتي لم تكن سوى الطعم للمتبرعين ليتبرعوا بمبالغهم، فإذا ما بدأت الاستجابة المتأخرة تبدأ الفوضى؛ فترسل أكوام من مواد التدفئة والبطانيات والملابس دون دراسة حقيقية للاحتياج إلا ما تخيله المتبرع حينما شاهد صورة الضحية، فتصبح الكارثة كارثتين، سوق سوداء لبيع المواد الإغاثية الفائضة عن الحاجة الناتجة عن عدم دراسة الاحتياج، وتأخير في الاستجابة قد تسبب بضياع الأرواح وتبدد الجهد والمال.
بعد أول ضحايا البرد في كل عام وفي مشهد يلخص جانباً من الواقع؛ تبدأ مصانع البطانيات في بلد مجاور لسوريا بالعمل ليلاً نهاراً لتلبي طلبات الوكالات الإنسانية، وبعد خمس سنوات لا يزال يتكرر المشهد ذاته؛ قال لي أحد الزملاء ساخراً قبل أيام: لو تم تخييط البطانيات التي دخلت إلى سوريا خلال السنوات الماضية ووضعها جنباً إلى جنب لغطت سوريا وحجبت عنها الشمس.
في نهايات شتاء العام قبل الماضي شهدت تقديم أحد المؤسسات المانحة مشروع بما يزيد عن 300 طن من الفحم الحجري خلال شهر مارس -أي بعد انتهاء موجات البرد القاسية- وتم توزيعه بصورة غير منطقية لإنهاء المشروع الذي لا بد وأن ينفذ في إطار "الشتاء"! وقد رمى المستفيدون أكياس الفحم أمام بيوتهم بدلاً من أن يرموها في مدافئهم التي كانت باردة خلال شتاء قاس مر عليهم!
بالرغم من أن الاستجابة تأخرت في هذا العام، وقد سقط ضحايا البرد والتجمد إلا أن الاستجابة الضعيفة للغاية لم تغط حتى احتياج المهجّرين قسراً من حلب، علاوة على ما يزيد عن 6 ملايين نازح داخل سوريا، وأعداد ليست باليسيرة على الحدود تعاني الأمرين ولا يعرف بحالها إلا الله، أو من أراد البحث عنهم.
الكون قائم على نواميس وثوابت، ومن تلك الثوابت الراسخة تدافع اليل والنهار، ومضي الأيام والأشهر والفصول، ولكل فصل طقسه ومناخه، والشتاء ثابت فيه البرد والثلج، ويأتي مرة كل عام في وقت وزمان محددين.. ومن المسلمات كذلك أن البرد يفتك بالصغار والنساء وكبار السن من ذوي الضعف.. فهل من المسلمات كذلك أن نترك هؤلاء ليقتلهم البرد في كل عام؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.