شعار قسم مدونات

أرذل العمر

blogs - أرذل العمر

بخطوات سريعة وعجولة خرجت من بوابة المستشفى بعد إجراء بعض التحاليل، بؤبؤ كل من عيناي الاثنتان قد تقلص لشدة سطوع أشعة الشمس وحاجباي تقطبا محاولين إعانتي على النظر، انشغل كل من عقلي ولساني بالحديث مع صديقتي إلى أن وقع نظري على مشهد دفع بي للمشي بخطوات هادئة متباطئة متوافقة مع استرخاء عضلات جبيني.

حينها كنت قد رأيت شيخا عجوزا بجسد ضئيل مرتديا رداء المستشفى الأبيض المرقط يجلس على غطاء الأرض العشبي الأخضر الرطب من رشاشات الماء الصباحية وزوجته بجانبه يدها على ظهره تربت بكل خفة وتداعب رأسه الذي اشتعل شيبا ويدها الأخرى ممسكة بعباءة رأسها السوداء، أمامهما يجلس شاب في مقتبل العمر، لا أعلم إن كان ابنه أم حفيده، لكن النظرة التي في عيناه وابتسامته الهادئة التي لا تعلم إن كانت تعبر عن حزن خفي أم راحة اطمئنان توحي بوجود صلة قرابة، استوقفني ذلك المشهد وقطع الحديث بيني أنا وصديقتي وبدأت كل منا تتمتم باسم الله وذكره.

 

أخذت بي تلك اللحظة إلى استيعاب مدى قِصر العمر وسرعة مُضي الزمن، فالمرض وحده قادر على جرك إلى أرذل الأحوال حتى وإن لم ينتهِ وقتك بعد، الوقت الذي وُجِدَ ليستثمر في بناء حياة لا يندم عليها على فراش المرض أو الموت.

أكتب كلماتي هذه بعد مُضي أكثر من 48 ساعة عما رأت عيناي وما استشعره قلبي، وهذا بحد ذاته يدل على عظمة الأثر الذي تركه في خاطري، أن ترى في نظرة واحدة وعلى عتبة المستشفى المفارقة بين مقتبل العمر وأرذله قادر على قلب كيانك رأسا على عقب، وهو شيء لا مفر منه فهي سنة حياة.

 

ما رأته عيني كان كناقوس يدق في عالم النسيان، ازدحمت خلايا عقلي بتساؤلات واختلاجات منها المنطقي ومنها المخيف ومنها المتناقض، سألت نفسي كيف سأكون عندما أصل إلى هذا الحال؟ هل سأنظر من فوق كتفي نحو ما مضى ندما أم فخرا؟ هل سأكون بقوتي وعزتي أم سيتغير بي الحال؟ إن التفت حولي هل سأجد من أستند على كتفه عند ضعفي؟ أم سيمضي بي العمر وينتهي قبل بلوغ أرذله؟

 

أخذت بي تلك اللحظة إلى استيعاب مدى قِصر العمر وسرعة مُضي الزمن، فالمرض وحده قادر على جرك إلى أرذل الأحوال حتى وإن لم ينتهِ وقتك بعد، الوقت الذي وُجِدَ ليستثمر في بناء حياة لا يندم عليها على فراش المرض أو الموت.

 

لنتوقف قليلا ونسترجع آخر مرة أصبنا بالزكام واحتقان اللوزتين وافتقدنا حينها اللحظات التي استطعمنا بها الماء البارد بلا أن نشعر بالألم؟ أو المرة التي اقترب فيها الموعد النهائي لتسليم مشروع أو غيره وندمنا على الأسابيع التي لم نفعل بها شيئا سوى التسويف والتأجيل؟ هكذا هو العمر، عندما نصل إلى خط النهاية منه نبدأ بافتقاد ما مضى منه من سنوات للتكفير عن ذنوب تثاقلت كالجبال على ظهورنا، سنوات كانت لتكون كفيلة برد الحقوق وبناء علاقات نستند عليها في الوقت البدل الضائع، وإرضاؤه عز وجل قبل كل شيء.

 

لنواجه أنفسنا ونبحث عن أجوبة ما يلي إن وجدت، متى كانت آخر جلسة محاكمة لنفسك أمام ضميرك وما يرضى به رب العباد؟ جاعلا اليوم الحاضر الوحيد والغد هو المستقبل القريب الفاصل بينك وبين الآخرة؟ كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك). لماذا يجب علينا أن ننتظر ساعة الندم لنبدأ من جعل كل ثانية ذات قيمة تحتسب لنا لا علينا؟ أن نبني حياة نجد في آخر طريقها من يرغب بالتربيت على كتفنا والتواجد كظلنا في أسوأ وأرذل الأحوال.

 

كم هو جميل أن نتصور أنفسنا على ذلك العشب الأخضر الرطب ذاته تحت أشعة الشمس الدافئة و نسمات الهواء الهادئة في بقعة من بقاع هذه الأرض الواسعة، و صدورنا مليئة بالإيمان و الراحة و الطمأنينة، و عقولنا موقنة أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بنفسٍ خالية من أي ندم جعلت من الوقت رفيقا لها، ليست نفس مثالية لكنها مؤمنة بما يكفي لإرضائه عز وجل ساعية للفردوس الأعلى، تواجه أرذل العمر باعتصامها بحبل الله تحت ظل عرشه العظيم برفقة من سخرهم الله ليكونوا سندا لها، تنام في كل ليلة مُسلمة روحها لله عز وجل رغبة بالجنة و برؤية وجهه عز وجل و رفقة رسوله الكريم – صل الله عليه و سلم -، ليغمض المرء عينه هانئا و في ذهنه يتردد قوله تعالى: ( إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) فصلت: 30. هنا تتساءل النفس قائلة: أحقا أستحق هذا بما أنا عليه الآن؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.