هذا السؤال الذي يأتي الآن ليس لأننا أمّة فقدنا سبل التعامل مع الفكر والصنعة وتقدير مكانتهما منذ قرون، بل لأننا أيضاً أضحينا ألعوبة بأيدي الأمم القريبة والبعيدة، فأصبحت بلداننا مستباحة لها وتندرج ضمن حسابات مجالها الحيوي، دون أن تضع وزناً لنا لأننا لم نخلق ذلك الوزن أساساً، وقد شارك في لعبة تقسيم الغنائم من كنا نحسبه صديقاً قبل الذي كان يجاهرنا العداء.
كانت أوروبا تلد يوماً تلو الآخر مفكراً قادراً على المساهمة ببناء حضارتها، فيما ظللنا ندور بذات الدائرة سني وشيعي، شافعي أشعري وحنفي ماترودي، متصوف وسلفي. |
مستوى الانحطاط الذي بلغته أمتنا يكاد يفوق ذلك الذي رافق سقوط بغداد بقبضة المغول وعلى أيديهم عام 1258م، إذ إن تلك الحقبة لم تخلُ من بقايا المفكرين والفقهاء المتزنين، كما أن سقوطها كان جزئياً في حسابات الأمة، إذ كانت القاهرة رديفاً في حمل راية إضاءة نور المعرفة والعلم إلى حين، لكننا نعايش عهدا لا نمتلك فيه هذا الخيار ولا ذاك، فهل نحن بصدد دفع فاتورة أخطاء تاريخية باهظة تراكمت على امتداد السنين وتخللها الانشغال بما تجود به مدارس فقهية شغلتنا إلى اليوم في بناء تصنيفات أفضت إلى تشظٍ وتقسيم مرجعه الانتماء الفقهي والمذهبي والطائفي وليس العلمي والمعرفي، في وقت نبذنا ابن سينا لخلفيته المذهبية، وتجاهلنا علمه ومساهماته ولم نكلّف أنفسنا عناء البناء على العلم التجريبي الذي قدمّه وثبت قطعيته، وتلاه محاربة البعض لفكر الإمام الغزالي ومن بعده ابن رشد لاختلاف بعض المدارس الفقهية معهما، فيما كانت أفكار ثلاثتهما وغيرهم بمثابة المشكاة التي أضاءت مسيرة بعض الأمم المتحضرة المعاصرة.
لقد كان تاريخنا ولم يزل عبئا ثقيلًا علينا، يعيق تقدمنا ويُشغلنا بانقسامات ناتجة عن اجتهادات بشرية، ومنذ نهاية فترة صدر الإسلام ونحن نعايش انقسامات تولِّد أخرى، فالبعض ما زال يجادل ويعايش ويصر على بث مواقف سياسية وفقهية لربما كانت مناسبة في مكان وزمان ما، ويُراد لهذه المواقف أن تُستنسخ في عصرٍ يجري الحديث فيه عن إدارة مؤسسات متعددة الجنسيات بلا موظفين، فيما ينشغل الفقهاء والدعاة بإعادة تغريدة تداعيات معركة تاريخية، أو موقف الدين من استعمال السواك خلال شهر الصيام، وترافق ذلك مع تمترس مجتمعي خلف عصبيات وعشائريات وعرقيات ملأت فراغاً تسبب به غياب المدارس الفكرية.
بعض هذه المدارس الفقهية بخلفياتها المتعددة، أسهمت في تعطيل العقلية العربية خصوصا، وأقول خصوصاً لأن العجم تمسكوا ببراعتهم في مختلف العلوم طيلة قرون شهدت ازدهار الدولة الإسلامية، فالمحتوى الذي قدمته المدارس الفقهية حاصر العقلية العربية بدائرة ضيقة للغاية، فهي مجبرة على الامتثال بما جادت به عقول قادة تلك المدارس وتلاميذها، فيما اعتبر الجنوح خارج هذه الدائرة بمثابة تجاوز وتحدٍ لها بما يؤدي لنبذ مفتعلها.
أعتقد بأن المرحلة المقبلة تتطلب إعلاء شأن المفكرين والمجددين غير المأجورين ممن يسهمون في تمكين الأمة من التماسك وعدم الاندثار. |
غالبية المدارس الفقهية التي شهدها تاريخنا كانت مهمة للغاية في تأدية مهمة سامية تتمثل في توضيح ملابسات الأمور وشرحها للعامة ولربما الخاصة أيضاَ، لكن بعض متبعيها انشغلوا في محاربات المدارس الفكرية التي أرادت أن تجدد دماء فكر الأمة بما يتسق مع متغيرات العصر، فكان لا بد من سير المسارين بشكل متلازم، لتكتمل الحلقات لا أن تنفصم، لا بل إن بعض متبعي تلك المدارس خاضوا حروبا مع نظرائهم بسبب أموراً شكلية لا يمكن أن تمثل وزناً في مسار أمة تريد خوض غمار المنافسة مع أخرى تتخذ وضعية النهوض للتماهي مع مستجدات عصرها، ومنذ العصر الوسيط ونحن نغوص في متاهات فقهية وحروب كلامية غير ذات نفع، في وقت سارت به المدنية الحديثة بمسار مختلف للغاية، فُسح فيه المجال للعقلية النقدية البعيدة عن التبعية العمياء، وهنا تحديدا كانت أمتنا ترفض فكر ابن رشد الذي تلقفته أوروبا الغارقة بالجهل لتؤسس حضارتها الجديدة المبنية على أسس قابلة للتجدد بعيداً عن التزمّت والتشبث بمقولات ونظريات بشرية قابلة للدحض أو الإثبات.
ما يُفعل بنا في سوريا والعراق واليمن ومن قبل ذلك فلسطين، هو ثمرة لقصور أفكار ضيّقة كنا نحن من زرع بذرتها، فالأمور تقاس بنتائجها، لقد انساقت شعوبنا من حيث لا تدري خلف أفكار مدارس فقهية تعاني من الجمود وتحول دون التمكين من الإبداع، لنصل إلى مرحلة تتسم بالتأخر العلمي والأدبي والمعرفي فضلاً عن ضياع الرؤية، فنحن شعوب زرعت فينا أدبياتنا بأننا مطالبون بانتظار قائد ملهم مخلّص ينوب عنا بتأدية مهمة تحقيق المنجزات والمعجزات والفتوحات، فتارة عبد الناصر وأخرى صدام وأخيرا أردوغان، وهنا فنحن مطالبون فقط بتأدية فروضنا الدينية التي تجعل من أي فردٍ منا أفضل من توماس إديسون أو آينشتاين باعتبار ضماننا دخول الجنة مقابل حتمية دخولهما جهنم.
مع إقرارنا بتخاذل كثير من قياداتنا ممن أسهموا باستمرار تردي أمتنا ومعاناتها من الانحطاط الفكري كتتمة لدور المستعمر الأجنبي، غير أن المراهنة تظل على الشعوب المُطالبة بإعادة بناء العقلية العربية. |
هذا الفكر السلبي والاتكالي الذي تراكم في أدمغتنا جيلا تلو آخر، قابله إطلاق القدرة على التفكير والاجتهاد والإبداع لدى شعوب أخرى، ما جعل منا أمة قاصرة عن التفكير في مصالحها ومستقبلها وبناء كيانات مُهابة وغير مستباحة كل يوم وليلة.
أعتقد بأن المرحلة المقبلة تتطلب إعلاء شأن المفكرين والمجددين غير المأجورين ممن يسهمون في تمكين الأمة من التماسك وعدم الاندثار، بالتزامن مع العمل على تغيير المناهج الدراسية التي ثبت عدم قدرتها على بناء العقلية النقدية، فغالبية خريجي الثانوية العامة في بلداننا لا يجيدون الكتابة باللغة العربية، فما بالنا بالعلوم الحديثة، قد نصل لمرحلة نطمئن فيها على مستقبلنا، حينما نرى عدد مرتادي المكتبات أكثر من أولئك المتسمّرين خلف شاشات التلفاز لمتابعة لقاء قمة الدوري الإسباني أو مسابقة أفضل مغنٍ ناشئ أو غيرها من الجوانب التي لا أنكرها، ولكن أنكر تسخير جُل وقتنا لها.
كما يمكننا الشعور بظهور بوادر تحسُّن العقلية السائدة حينما تتحول المشادات والشتائم المنتشرة على المواقع الإلكترونية بين المختلفين، إلى مناقشات بناءة تسهم في تحسين مستوى إدراكنا للتحديات الماثلة أمامنا.
ما يجري في أرجاء أمتنا يستدعي منا وقفة يتلوها العمل على إجراء مراجعات موسعة لنمط التفكير السائد في مجتمعاتنا، فمع إقرارنا بتخاذل كثير من قياداتنا ممن أسهموا باستمرار تردي أمتنا ومعاناتها من الانحطاط الفكري كتتمة لدور المستعمر الأجنبي، غير أن المراهنة تظل على الشعوب المُطالبة بإعادة بناء العقلية العربية على أسس نقدية انطلاقا من البيت والمدرسة، نريدها عقلية تُعلي من شأن الإنتاجية والعلم والمعرفة دون أن يُخل ذلك في انتماء الأمة لدين حنيف حضّ على التفكير والإبداع والعمل، لتعود للأمة مكانتها بين نظيراتها من الأمم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.